التأمل المفيد (٣٩١)

الحلقة الثانية والسبعون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

 قال الله تعالى: {{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: ٩] !!

فرق كبير بين التعامل الحسن الذي أمرنا الله به مع غير المسلمين -الذين لم يقاتلونا بسبب الدين؛ ولم يخرجونا من ديارنا- بأن نكرمهم بالخير؛ ونعدل فيهم بالإحسان إليهم؛ والبّر بهم؛ كما قال أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: ٨] !!

أقول: فرق كبير بين هذا التعامل الحسن؛ وبين وجوب بُغض ما هم عليه من كفر؛ وكذلك وجوب بُغض اغترارهم بهذه الدنيا الفانية؛ كما بينت الآية الكريمة التي هي موضع التأمل في هذا المقال !!

والسؤال الذي يطرح نفسه:

ما المواقف الصحيحة التي يجب على المسلم أن يقفها تجاه مجتمعات الحضارة المادية، خاصة مع تقدمهم المادي الهائل في هذا العصر 

الجواب:

هناك جانبان اثنان لا بد أن يدركهما المسلم؛ ليقف الموقف الصحيح تجاه مجتمعات الحضارة المادية، وهما: الجانب العقدي القلبي؛ والجانب العملي السلوكي، وفيما يلي بيان بعض المواقف لكلا الجانبين، فأقول وبالله التوفيق:

أولا: الجانب العقدي؛ وأختار منه موقفين:

الموقف الأول: الجمع بين حُسن التعامل معهم؛ وبين وجوب بُغض ومقت ما هم عليه من كفر وشرك:

قال تعالى: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} [فاطر: ٣٩]، وعليه فإننا كما نحب بقلوبنا من أحبه الله؛ فإننا كذلك نمقت ونبغض بقلوبنا من مقته الله !!

الموقف الثاني: الجمع بين حُسن التعامل معهم؛ وبين وجوب عدم الانبهار بدنياهم:

قال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ• مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: ١٩٦-١٩٧]، قال أهل التفسير: “لا تغتر -أيها الرسول- بما عليه أهل الكفر بالله من بسطة في العيش، وسَعَة في الرزق، وانتقالهم من مكان إلى مكان للتجارات وطلب الأرباح والأموال، فعمَّا قليل يزول هذا كلُّه عنهم، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة” .. ذلك أن المؤمن هو الأعلى بإيمانه؛ حتى لو كان مهزوما في معركة مع الكفار، قال تعالى للمؤمنين يوم أحد: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩] !!

وممّا يُعين على عدم الانبهار بتقدمهم المادي؛ هو أن ينهج المسلم نهج القرآن الكريم في عدم مدح الكفار على عمارتهم للأرض؛ إذ كان ذكر ذلك في الآية -التي هي موضع التأمل- لبيان أنه لم يكن -لقوّتهم وعمارتهم للأرض- أن تحميهم من عذاب الله تعالى، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}، لقد كانت عاقبتهم عذاب في الدنيا والآخرة !!

وهناك حِكْم عظيمة في نهج القرآن الكريم بعدم مدح الكافرين؛ على قوتهم وعمارتهم للأرض؛ منها:

حتى لا يزداد الكافر -بمدحه- بُعدا عن قبول الإسلام؛ مغترا بتقدمه المادي؛ الذي يرى أنه لا يجتمع مع عبادة ربه، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: ٧٣]، حتى كفار مكة؛ أعمتهم المادة فرفضوا الإسلام !!

ومنها: حتى لا يَضعُفَ في نفس المسلم جُرم كفر الكافر؛ الذي عظّمه الله تعالى فقال عنه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا • لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا • تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: ٨٨-٩٠] !!

ثانيا: الجانب العملي؛ وأختار منه موقفين:

الموقف الأول: الجمع بين حُسن التعامل معهم؛ وبين وجوب رحمتهم بدعوتهم إلى الإسلام:

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ • قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [الأنبياء: ١٠٧-١٠٨] !!

ونجزم أن دعوتهم إلى الإسلام وإلى جنات النعيم تفضل -بأضعاف لا يعلم قدرها إلا الله- ما قدموه لنا من علم مادي !!

الموقف الثاني: الجمع بين حُسن التعامل معهم؛ وبين وجوب مخالفتهم وعدم التشبه بهم:

وهذا أصل عظيم في ديننا؛ أفرد له شيخ الإسلام ابن تيميه كتابا أسماه: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) .. وهي مخالفة الكافرين، ليس في العقائد والعبادات والشرائع فقط، بل حتى في المظهر والهيئة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أَعْفوا الِّلحَى، وجُزُّوا الشَّوارِبَ، وغيِّروا شَيْبَكم، ولا تَشَبِّهوا باليهودِ والنَّصارى) [صححه الألباني في صحيح الجامع (١٠٦٧)]، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من تشبَّهَ بقومٍ فَهوَ منْهم) [صححه الألباني في صحيح الجامع (٦١٤٩)] !!

ويبقى أن أبين أن المسلم الصادق يكون في أحسن أحواله في التعامل مع مجتمعات الحضارة المادية؛ حين يأتي بكلا الجانبين: العقدي والسلوكي -اللذين بينتهما في المقال- ولا يفرط في أي منهما، وهذا ما يعكس قوة إيمانه بالله العظيم؛ وشدة اعتزازه بمنهج الإسلام القويم !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه كيف نجمع بين حُسن التعامل مع الكافرين -غير المُحارِبين- وبين الوقوف العقدي والعملي الصحيح تجاههم !!

اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..

نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..

 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..

انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..

وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..