التأمل المفيد (٣٣٣)

الحلقة التاسعة عشرة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

 قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥]؛ آية كريمة عظيمة في موضوع القضاء !!

الذي يدعوني للحديث عن سماحة القضاء في الإسلام؛ وعرض هُزال وضحالة القضاء في محاكم الحضارة المادية؛ هو ما يتغنى به كثير من المنبهرين بالحضارة المادية -من بعض أبناء المسلمين- عن نظام القضاء هناك؛ ونزاهته المزعومة؛ وأنها -زعموا- دول العدل والقانون !!

وأول ما ينبغي أن يدركه هؤلاء المفتونون أن نظام القضاء الإسلامي السمح قد أحكمه خالق البشر سبحانه؛ الذي يعلم ما يُصلِحُ أمر خلقه، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: ١٤] .. بخلاف نظام القضاء البشري الآثم؛ الذي يضعه البشر لأنفسهم !!

في القضاء الإسلامي يعلم القاضي أن هناك حدودا، وقصاصا، وتعزيرا، وقد بين الشارع سبحانه الحدود؛ كحد السرقة مثلا؛ بقطع يد السارق .. وعقوبة الحدود ليس فيها شفاعة متى ما وصلت القضية لولي الأمر، لأن الحدود حق الله تعالى؛ بسبب الاعتداء على شرعه؛ كشرب الخمر !!

كما بين سبحانه القصاص: قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْن .. إلى آخر الآية) [المائدة: ٤٥] .. والقصاص حق للفرد -لأنه اعتداء على جسد الفرد؛ بقتله؛ أو مادون ذلك من الإصابات- فتجوز فيه الشفاعة!!

أمّا التعزير: فيختار ولي الأمر أو القُضاة العقوبة المناسبة للجُرم الذي لا حد فيه ولا قصاص !!

كما أحاط الله تعالى القائمين على القضاء في الإسلام بتوجيهات عظيمة؛ تدفعهم دفعا إلى رقابة الله تعالى وتقواه؛ حين يحكمون بين الناس؛ كما في الآية التي هي موضع التأمل في هذا المقال .. وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) [متفق عليه]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثةٌ قاضيانِ في النارِ وقاضٍ في الجنةِ) [صححه الألباني في صحيح الجامع (٤٤٤٧)]!!

نخلص ممّا تقدم إلى أنه قد:

اجتمع في القضاء الإسلامي أمران عظيمان:

الأول: شرع الله؛ من حدود وقصاص وتعزير، وغير ذلك من النصوص الشرعية التي تخص القضاء كالشهادة مثلا !!

الثاني: خوف القائمين على القضاء؛ والمحامين؛ وكذلك الشهود من الله تعالى؛ بسبب التوجيهات القرآنية والأحاديث النبوية الآنفة الذكر !!

أمّا الحضارة المادية فالقضاء فيها قد جمع بين شرين:

الأول: تمرد على الله تعالى؛ وعلى شرعه القويم، حيث لا يعترف القضاء فيها بالحدود التي حدها الله؛ ولا بالقصاص .. ولذا فعقوبات الجُناة إنما هي دائما من باب التعزير .. وحين فقدوا الرادع عن الجرائم -عقوبة الحدود أو القصاص- فشل القضاء في جلب الأمن للمجتمع؛ ولم يعد له دور في خفض الأرقام الفلكية في زيادة الجريمة !!

الثاني: عدم إيمان القائمين على القضاء بتوجيهات رب العالمين؛ وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم -التي أوردتها آنفا- والتي تخيفهم من الظلم؛ وقلب الحقائق !!

وفيما يلي بعض الأمثلة لغرائب الأحكام والمرافعات لديهم:

غرائب الأحكام: في كثير من قضايا قتل العمد؛ قد يُخفف الحكم بالإعدام -في الولايات الأمريكية التي تتبنى حكم الإعدام؛ وعددها تسع عشرة ولاية- قد يُخفف إلى السجن؛ إذا غير المتهم أقواله من إنكار الجريمة إلى الاعتراف بها .. وكم حزن أهالي الضحايا جراء اتخاذ المحكمة مثل هذا التخفيف ؟؟!!وكيف هو حزنهم في الولايات التي لا تتبنى الإعدام؟! فيالعظمة القضاء الإسلامي؛ حيث لا يمكن لأحد أن يغير أحكام قتل العمد؛ إلا بعفو من أهل القتيل !!

أمّا غرائب المرافعات: ادعاء كثير من محامي الدفاع -من الذين لا يخافون الله-؛ ادعاؤهم بجنون المتهم ساعة اقتراف جريمته؛ أو أنه قتل دفاعا عن نفسه؛ أو أنه كان مريض نفسيا؛ محاولين جهدهم في إثبات ذلك؛ حتى لو كان الادعاء باطلا .. لذا يمتنع كثير من المتهمين من إجراء تحقيق مع الشرطة؛ طالبا الحديث مع محاميه أولا !!

وأمّا لجنة المحلفين -المكونة من (١٢ شخصا؛ من عامة الناس)- فهؤلاء هم غالبا من يأخذ القاضي برأيهم في إمضاء الحكم الذي يقترحه محامو الادعاء -كالإعدام- أو رفضه، وفيما يلي قضية حديثة تدل على ذلك:

 ألغى قاضي محكمة -في ولاية فلوريدا يوم السبت الماضي (٢٢) يوليو ٢٠٢٣- محاكمة القاتل -مغني الراب- (YNW Melly)؛ المتهم بقتل اثنين .. وقد تسببت مرافعة محامو الدفاع -بقولهم: استحالة قتل القاتل للضحيتين؛ بسبب أنهما صديقاه- تسببت في عدم تمكن لجنة المحلفين من التوصل إلى حكم بالإجماع بعد ثلاثة أيام من المداولات .. مع أن محامي الادعاء طلبوا إنزال حكم الإعدام عليه؛ لثبوت إدانته لديهم !!

وهكذا .. أراد الله للبشر -بعد الاستسلام له- نظاما قضائيا محكما؛ فيه: (حدود، وقصاص، وتعزير) .. واختارت الحضارة المادية التمرد على الله؛ وعلى شرعه؛ فجمعت بين العيش بمنهج يخالف شريعة الله -وما يفرزه من مآس وجرائم- وبين قضاء أحكامه جميعها تعزيرية، فجرّوا إلى أنفسهم مئات الألوف من الأحكام القضائية المختلفة الغريبة، حتى أنهم حكموا على المجرم  (Terry Nichols); عام ٢٠٠٤م (١٦١) مرة بسجن مؤبد؛ بالإضافة إلى (9300) سنة !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!