الحلقة الرابعة من سلسلة “معا؛ لنرتقي في تقديرنا لله تعالى حق قدره في هذه الحياة الدنيا؛ بالتأمل في بعض الآيات القرآنية الكريمة !!
قال الله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران : ٣٨] !!
سينفر المسلم من أي زيادة في دينه أو نقصان، إذا علم أن ذلك سيحرمه من أجمل وأروع وأعظم وأفضل وألذ أمر اراده الله تعالى له في هذه الحياة الدنيا؛ مناجاة الله تعالى !!
فإن أظلم وأبشع ما قد يصل إليه الإنسان في علاقته بربه، هو حين يبلغ به الظن، أن الغني سبحانه، المحيط بكل شيء علما، القادر على كل شيء، المحيي المميت، من له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، لا يمكن التقرب إليه إلا ببركة إنسان مثله !! عندها يقلب هذا الإنسان حريته على هذه الأرض إلى عبودية لغير الله، في شكل من أشكال العبودية المختلفة المتعددة !!
ولذا ليس غريبا أن يستنكر بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وبشدة، من أن يضيف المسلم ولو حرفا في كلامه، يعطي به بشرا، كائنا من كان، شيئا من خصائص من له الملك كله العلي الكبير !! فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من قال له: ما شاء الله وشئت، وقال مغضبا ” أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده” !! صححه الألباني [السلسلة الصحيحة 1/266] !!
يغضب صلى الله عليه وسلم ذلك الغضب مع علمه بالمكانة التي أرادها الله له، حيث يُرفع ذكره في الأذان كل يوم خمس مرات في أرجاء المعمورة، وجعل سبحانه اتباعه صلى الله عليه وسلم علامة محبة المؤمن لله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران : 31]، وحينما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك” رواه البخاري !!
لكنه صلى الله عليه وسلم يغضب غضبا شديدا من جعْلِهِ ندا لله تعالى، بل ويحذر من الغلو في إطرائه، خشية الانزلاق نحو المحذور ، قال صلى الله عليه وسلم : “لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم .. ” رواه البخاري، ويأمره ربه أن يقول للناس أنه لا يعلم الغيب، قال تعالى : {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : ١٨٨] !!
إنه غضب المصطفى صلى الله عليه وسلم من أن يفقد الإنسان أجمل وأروع وأعظم وأفضل وألذ أمر أراده الله له في هذه الدنيا: الصِّلة المباشرة بربه، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}، حين يظن أنه غير مؤهل لهذه الصِّلة إلا عن طريق من هو أقرب منه -في ظنه- إلى الله تعالى !!
زيادة حرف واحد أغضبه، صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يجعل الحرف حروفا وكلمات، نثرا وشعرا، ثم طقوسا، لتتلبد بها الغيوم، مكدرة صفو الصِّلة بالله تعالى، التي أراد الله تعالى أن يحظى بها ويفيئ إليها حتى العامي من عباده، بسيط الثقافة والكلام ؟!
لقد كان صلى الله عليه وسلم يستمتع بهذه الصِّلة في كل أحواله، ويريد لغيره أن يستمتع بها كذلك، لأنه يمارس بذلك تعظيم الله تعالى حقيقة، حين يقر ويعترف أن الله سميع بصير ، يسمع كل مخلوقاته في نفس اللحظة، بدون وسيط، ومن دون أن يختلط عليه صوت عن صوت، ويرى كل مخلوقاته في نفس اللحظة،بدون وسيط، ومن دون أن يختلط عليه مشهد عن مشهد، قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان : ٢٨] !!
وقبل أن انتقل بالقارئ الكريم إلى ظلمة أخرى من ظلمات الزيادة أو النقص في هذا الدين الحنيفي السمح، أطرح سؤالا جميلا: هل ثمّن الواحد منا قيمة لحظة من عمره، اتصل فيها برب الأرباب وملك الملوك سبحانه، بصدق ؟! فكيف وهذا الملك ذو الجلال والإكرام، هو سبحانه من يتودد إلى عباده ليتصلوا به، العمر كله، وليس لحظة واحدة، بذكره آناء الليل وأطراف النهار ؟!
وحتى تثمّن لحظة صلة بالله سبحانه -ولله المثل الأعلى- فانظر كم يدفع ويبذل البعض، في زمن العجائب الذي نحن فيه، ليلتقي بشرا مشهورا ذي جاه ومكانة كبيرة ؟! في الغالب، لا يمكنه التواصل معه طوال حياته !! ويظل يحلم برؤيته ولو لدقائق معدودات !!
ما ذكرته أعلاه ظلمة في التصور، ثم أُثني بظلمة أخرى متعلقة بالعمل، تحصل حين يختار الإنسان طريقة غير التي اختارها له ربه في مناجاته .. فقد اختار الله لنا أن نصلي في جماعة وأن نحج بالملايين، ويصوم المسلمون كلهم .. كل هذه وغيرها صور لعبادات تؤدى في جماعة .. لكنها كلها لا تكون المناجاة لله تعالى فيها إلا فردية !! .. كل مصل يناجي ربه منفردا، وكل حاج أو معتمر يناجي ربه منفردا، وكل صائم يقرأ القرآن لوحده ويدعو الله لوحده .. هكذا هي عباداتنا صورتها جماعية، ولكن المناجاة فيها فردية .. حتى يبقى *أجمل وأروع وأعظم وأفضل وألذ* ما أعطانا الله في هذه الدنيا كما أراده الله، صلة به مباشرة .. يتنافس فيها الناس، بدون أن يشتت أحد على أحد تركيزه، حين يناجي ربه .. والذكر من أجل العبادات التي سنها الإسلام للمسلم، يناجي من خلالها ربه سبحانه، ولا تكون المناجاة فيها ولا تصلح إلا بأن تكون فردية، ولذلك أنكر ابن مسعود رضي الله عنه على من أخذوا يناجون الله تعالى بذكر جماعي، فقال كلاما مغضبا: (ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد ..)صححه الألباني [السلسة الصحيحة 2005]، إنه نفس الخوف الذي خافه رسوله صلى الله عليه وسلم من قبل، أن يفقدوا أجمل وأروع وأعظم وأفضل وألذ ما أعطاهم الله في هذه الدنيا: الصِّلة به سبحانه ومناجاته فرديا !!*
أمّا عندما يحرص ويركز على خروج صوته متناغما مع الذاكرين معه، فسيفقد بهذه المناجاة الجماعية، التركيز على فهم المعاني التي يقولها في ذكره لله تعالى !!
والمناجاة الفردية لا تقتصر على المؤمنين فقط، بل شملت كل مخلوقات الكون، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور : ٤١]، قال أهل التفسير: “ألم تعلم – أيها النبي – أن الله يُسَبِّح له مَن في السموات والأرض من المخلوقات، والطير صافات أجنحتها في السماء تسبح ربها؟ كل مخلوق قد أرشده الله كيف يصلي له ويسبحه. وهو سبحانه عليم، مُطَّلِع على ما يفعله كل عابدد ومسبِّح، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيهم بذلك.” !!
إن المناجاة الفردية بين العبد وربه، تعد سدا منيعا موصدا أمام شتى أنواع البدع، وهي النتيجة الطبيعية لزيادة الصِّلة مع الله تعالى الملك القدوس !!
هذه حقيقة ديننا الكبرى التي أضاعتها كل الأديان، حتى دخلوا في ظلمات ليس فيها حتى بصيص صلة بالله تعالى ، بعد أن تبوأ البشر من أحبارهم ورهبانهم مكان الإله ، لا لشيء إلا ليأكلوا أموال الأتباع بالباطل، قال تعالى عن أهل الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة : ٣٤] !!
أخيرا: هكذا أرادها الله تعالى، أبوابا مفتوحة بينه وبين عباده، لا واسطة فيها، ولا حواجز !!
فالله الله أهل الإسلام !! لا تزيدوا في دينكم شيئا ولا تنقصوا منه ، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، حتى يبقى أجمل وأروع وأعظم وأفضل وألذ أمر أراده الله لعباده: صِلة مباشرة به سبحانه بدون وسائط، ومناجاة فردية معه، في هذه الحياة الدنيا !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!