الحلقة الثالثة من سلسلة “حاجة البشرية لأشهر الحج المعلومات”، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة : ١٩٧] !!
عندما يهلّ هلال شهر شوال من كل عام؛ تحل على البشرية أشهر الحج المعلومات !!
ذكرت في الحلقة الثانية جوانب العظمة في امتداد أشهر الحج سبعين يوما؛ بتذكير العالمين بتوحيد الربوبية !! واليوم أبين – بتوفيق الله تعالى- جوانب العظمة في تذكير العالمين بتوحيد الألوهية خلال أشهر الحج المعلومات !!
إن حكمة وجود البلد الحرام تكمن في خصائصه العظيمة التي أظهرها الله تعالى للعالمين، فهو البلد الحرام الذي ينهل منه الناهلون الطُهرَ، ويُبصرون صحة الاتجاه في قبلته، ويتلمّسون فيه البركة، ويرون فيه الهدى، ويجدون به قيام دينهم وأبدانهم وأموالهم ومدنيّتهم المميزة، حتى يصبح لهم مثابةً وأمناً !!
ما أشد حاجة البشريّة اليوم إلى وجود مجتمع آمن، طاهر، نقي، تسوده الفضيلة، ويعلو فيه الحق، ويغشاه السلام !! بعد أن أذاقهم الهروب من شريعة ربهم وخالقهم، ومحييهم ومميتهم ألوان الشقاء وأصناف العذاب، وعاشوا في متاهات الضياع قروناً !! وهم لا يزالون فارّين، هاربين، لا يلوون على شيء !!
ولو لم يكن من وجود البلد الحرام إلا إظهار التوحيد وعرض مجتمع التآخي، ومنابذة الشيطان العداوة؛ لكفاه ذلك هداية للعالمين !!
فأمّا إظهار التوحيد وعرض مجتمع التآخي؛ فأنّى للبشرية المنكَبَّة على عبادة غير الله تعالى -في التصورات وفي العمل- أن تلتفت إلى التوحيد وعظمته؛ لولا حكمة الله تعالى بتجسيده واقعاً عمليَّاً ملموساً في البلد الحرام؛ على الدوام عموماً، وفي أشهر الحجّ المعلومات على وجه الخصوص ؟!
بلد التوحيد الخالص:
فرق كبير بين أن يتسامع الناس برجل صالح في شعب من الشِعاب، يعبد ربه !!
وبين السماع ببلد أقامه الله تعالى بكل ما فيه لذكر الله تعالى؛ في الصباح والمساء !! يستقي من نبع منهج الإله نظام حياته .. طاعة الإله ديدنه .. يعبدون الله .. ويأكلون باسم الله .. نُسُكهم لله .. وخطواتهم في سبيل الله .. بيعهم وشراؤهم وفق شريعة الله .. طوافهم وسعيهم لله، بلباس شَرَعه الله .. ويلهجون بذكر يحبّه الله .. يتنقلون في موسم حجهم في أماكن حدّدها الله .. في أزمنة وقّتها الله .. ذِكرهم كلمات من وحي الله .. يمتنعون عن الأخذ من شعورهم من أجل الله .. ويحلقونها أو يقصّرونها لله .. وبالكيفية التي شرعها الله .. يرجون تكفير الذنوب وإزالة الكروب من الله .. يرفعون أكفّ الضراعة إلى الله .. ويسكبون العبرات من أجل الله .. يعظّمون شعائر الله .. ويصونون حرمات الله .. يحبون خالقهم ويرجون رحمته ويخشون عذابه !!
هذه هي الصورة المُجسِّدة للتوحيد في بلد التوحيد الخالص !! وحينما تنقل الفضائيات هذه الصورة حية؛ أو مُعادة، تحدث صدمة قوية وعنيفة في نفوس غير المؤمنين، لأنها صورة تحكي قصة التوحيد قولاً وعملاً، وتهزّ الفطرة التي فطرها الله أصلاً على ملة الإسلام, قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف : ٧٢]، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال:(كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه) (متفق عليه) !!
وأعظم ما يفرزه هذا التوحيد على أرض الواقع: هو المجتمع المكيّ المتآخي؛ الذي اجتمع على التوحيد ليعكس كمال المنهج الرباني، ويظهره في أجمل صُوَره، وأبهى حُلَله !!
فهنا بشر من خلق الله.. أذلة على إخوانهم في الله .. طهّروا قلوبهم من أدرانها، فلا كِبر ولا حسد ولا غلّ ولا حقد .. كل ذلك من أجل الله .. خفت صوتُ المنكر بينهم وعلا أمر المعروف لله .. جمعتهم كلمة التوحيد؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله .. فلا فضل لأبيضهم على أسودهم ولا لعربهم على عجمهم إلا بما يفضُلون به من تقوى الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : ١٣] !!
والصورة الثانية من مظاهر التوحيد التي يراها العالم في بلد الطهر على الدوام، وفي الحج على وجه الخصوص؛ منابذة الشيطان العداوة التي أمر الله الموحّدين باتخاذها، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : ٦]، وجمال هذه الصورة ظاهر في تحديد العدو ــ الشيطان ــ الذي طالما راوغ حتى لا يتخذه الموحّدون عدوّاً، قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف : ٢١]، وبذل وسعه حتى ينصرف الموحدون عن حربه، ويقعوا في الخلاف والشقاق فيما بينهم، والصراعات التي يؤججها بوسوسته، ويؤزّهم فيها بأساليبِ مَكْرِه !!
إن البشرية اليوم بحاجة ماسة إلى معرفة عدوّها الأكبر !! بعد أن وصل بهم الضياع إلى دركات سحيقة، بلغت حداً خطيراً .. عُبد فيه هذا العدوّ من دون الله، وساد فيها منهجه وشرعه دون شرع الله لدى كثير من الضالين .. حتى أن بعضهم أخذ يعبد هذا العدو حقيقة بطقوس وشعائر؛ فيما يسمى اليوم بعبدة الشيطان !!
وهذه اللوحة المكيّة الخالدة، من الاجتماع على التوحيد ومنابذة الشيطان العداوة؛ ما هي إلا نتاج الملايين من المسلمين؛ رسموها بالقول والعمل، حتى غدت لوحة ناطقة تبحث عن التائهين في الأرض؛ لتهديهم إلى دار السلام !!
اللهم اجعل هذا البلد آمنا !!
نواصل في الحلقة القادمة من هذه السلسة -بإذن الله تعالى وتوفيقه- الحديث عن أشهر الحج المعلومات !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعلِه) !!