التأمل المفيد (٦٣)

الحلقة الثانية من سلسلة “شمولية التوبة وأثرها الكبير في نهضة الأفراد والمجتمعات”، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور : ٣١] !!

بات من المعلوم أن لكثير من الموضوعات المهمة طرفان ووسط .. والتوبة شأنها شأن هذه الموضوعات المهمة التي وقع في فهمها غلو وتفريط، مع استمساك أهل السنة والجماعة بالوسطية في فهمها، ولله الحمد والمنة !!

 غير أن الغلو في مفهوم التوبة أو التفريط فيه؛ أساءا للأمة المسلمة إساءة جسيمة، حرمتها ثمار التوبة اليانعة التي قصدها الإسلام، والتي منها: أن يحيا الناس حياة طيبة تتقدم وتتطور نحو الأفضل .. ذلك أن الإسلام وجه بإتقان العمل -سواء كان العمل عبادة أو غيرها- فإذا ما وقع المسلم في الخطأ؛ وجب عليه التوبة وتصحيح الخطأ .. ويصحب تصحيح الخطأ خبرات ومصالح ينهض بها المجتمع ويتطور في الوجهة الآمنة التي خطها لها الشرع الحنيف !!

وقع الغلو في مفهوم التوبة من الخوارج؛ مصادما لفطرة الإنسان؛ بافتراضهم ضرورة عدم وقوعه في الخطأ، وتكفيرهم للمسلم بارتكاب الكبيرة من الذنوب !! واشتراط أن تكون التوبة من جميع الذنوب -دفعة واحدة- حيث لا يمكن في فهم الخوارج أن يتوب المسلم من بعض الذنوب مع تلبسه بغيرها !!

أغلق هذا الفهم السقيم -الذي جاء به أهل الغلو- أمام المسلم باب التوبة؛ الذي قضى الله سبحانه أن يكون مفتوحاً حتى ما قبل الغرغرة، وقالوا: إمّا الاستقامة الكاملة بدون أخطاء، أو الكفر وجهنم كما زعموا !! فأغلقوا التوبة على أنفسهم، وأشغلوا الأمة بفتنتهم وفكرهم الخبيث !!

أين عقل هؤلاء الغلاة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)حسنه الألباني [صحيح الترغيب (3139)]، أو قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) [صحيح مسلم (2749)] ؟!!

وفي المقابل، درج بعض المسلمين من المفرطين -في الماضي وفي عصرنا الحاضر- على حصر الذنوب والخطايا في الموبقات السبع وفي التقصير في أمور العبادات الكبيرة، وفي بعض الأخلاقيات السيئة جدا؛ كالكذب والخيانة والحسد وغيرها !! ثم ترك هذا البعض مساحة لا يستهان بها من الأخطاء؛ ولم يعدوها ذنوبا !! 

كذلك لم يعدوا ترك الواجبات في أبواب كثيرة من الأعمال التي يقوم بها الإنسان خلال يومه وليلته ذنوبا، وأخرجوها من دائرة محاسبة الله عليها -كالتسيب في الدوام الوظيفي مثلا، فهو عند البعض ليس ذنبا يجب التوبة منه !! مع أنه من أكبر أسباب تدني الإنتاج وإنجاز الأعمال في بلاد المسلمين اليوم !! سواء كان هذا التسيب تأخرا في الحضور إلى مقر عمله، أو خروجا مبكرا منه، أو إضاعة الأوقات أثناء الدوام لصوارف كثيرة لا علاقة لها بالعمل، أو عدم الجدية في أداء الأعمال- فحرم هؤلاء المفرطون أنفسهم من شمولية التوبة وتصحيح الخطأ في كثير من مناحي الحياة؛حيث يصحب تصحيح الخطأ خبرات ومصالح ينهض بها المجتمع ويتطور في الوجهة الآمنة التي خطها لها الشرع الحنيف التي جعلها الله فلاحا للناس .. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ” قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النُّور: ٣١]، فكلُّ تائب مفلح ولا يكون مفلِحا إلا مَنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به وتَرَكَ ما نُهِيَ عنه، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: ١١] [مدارج السالكين ج1 ص313-314] !!

اللهم اجعلنا من التوابين ومن المتطهرين !!

نواصل في الحلقة القادمة -بعد عون الله تعالى وتوفيقه- الحديث عن شمولية التوبة وأثرها الكبير في نهضة الأفراد والمجتمعات !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعلِه) !!