التأمل المفيد (٤٣٨)

الحلقة  التاسعة عشرة بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٤٥]، قال الإمام السعدي في معنى قوله تعالى من الآية: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم}: “إنما قال: “أهواءهم” ولم يقل: “دينهم” لأن ما هم عليه مجرد أهوية نفس، حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين، اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: ٢٣]” [تفسير السعدي (٧٢)] !!

الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم}؛ بيّنت -كما قال الإمام ابن سعدي آنفا- أن اليهود والنصارى -وهم غالب سكان المجتمعات المادية في عصرنا- يتبعون أهواءهم بغير هدى من الله تعالى؛ حين نبذوا آخر كُتب الله تعالى المنزلة -القرآن الكريم- وراء ظهورهم، قال تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٠١] !!

وإذا كان القرآن الكريم قد ذكر -قبل ألف وأربعمائة عام- اتٍّباع أهل الكتاب لأهوائهم؛ فكيف بأهوائهم في عصرنا؛ واتِّباعهم لها؛ وهو عصر تموج فيه الفتن موجا ؟!!

والسؤال الذي يطرح نفسه:

كيف يمكن لنا أن نُقرِّب للقارئ الكريم شناعة وفظاعة وضلال من اتبع هواه بغير هدى من الله تعالى ؟

الجواب:

قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: ٥٠]، يكفي -لبيان ضلال من اتبع هواه بغير هدى من الله تعالى؛ في المجتمعات المادية- أن نضرب المثال التالي للتقريب:

إن مساواة من اتبع هواه؛ مع من آمن بهدى الله تعالى؛ هو أشنع وأفظع -بمرات لا تُحصى- من مساواة طفل يدَّعي قدرته على صناعة قنابل ذرية؛ بعلماء قضوا جُل حياتهم في صناعتها .. ألا ما أجهل وأحقر من اتبع هواه بجانب من اتبع هدى الله تعالى !!

هذا، وإن ممّا دعاني إلى الكتابة في موضوع اتِّباع مجتمعات الحضارات المادية لأهوائهم؛ معرضين عن  الهدى المنزل من خالقهم العظيم؛ ليقيم الناس القسط بينهم، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥]، أقول ممّا دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع؛ هو انبهار بعض أبناء المسلمين بالحضارات المادية -خاصة بالقوانين التي يشرّعونها- وما دروا أن ذلك إنما هو محض اتباع للهوى -كما سيأتي بيانه- وهو الذي أبعد تلك المجتمعات عن شريعة عالم غيب الأرض والسماوات !!

ولعل هؤلاء المنبهرين بالحضارات المادية -من بعض أبناء المسلمين- قد استحسنوا القوانين المُنظِّمة لأداء الموظفين داخل أماكن عملهم؛ أو قوانين تنظيم حركة السير في البر والبحر والجو؛ أو غير ذلك من التنظيمات المفيدة، فظنوا أن باقي التنظيمات المتعلقة بنمط حياة الناس؛ وأسباب سعادتهم أو شقائهم -سواء كانت الأمور التعبدية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو العسكرية، وغيرها من الجوانب المهمة-، ظنوا أنها كذلك لابد أن تكون غاية في الحُسن والتنظيم؛ كتلك القوانين التي نظموا بها حركة المرور في مجتمعاتهم، وهذا ظن سطحي وساذج !!

والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه:

ما مجالات اتِّباع الهوى بغير هدى من الله تعالى؛ التي اقترفتها مجتمعات الحضارة المادية، وما أثر ذلك عليها ؟

الجواب:

كل مجالات الحياة، إذ لم يتركوا مجالا إلا وشرّعوا فيه بأهوائهم -المجال التعبدي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتعليمي، والعسكري، وغير ذلك من مجالات الحياة المهمة- غير أنني سأقتصر على أهم جانب منها؛ وهو الجانب التعبدي -خاصة أركان الإسلام-، فأقول وبالله التوفيق: 

قال تعالى مخاطبا أهل الكتاب: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ • وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة: ٤-٥]، قال أهل التفسير:  “وما أمروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا الله وحده قاصدين بعبادتهم وجهه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان، ويقيموا الصلاة، ويُؤَدُّوا الزكاة، وذلك هو دين الاستقامة، وهو الإسلام” !!

بنى الله تعالى دينه ومنهجه -الذي بعث به جميع الرسل عليهم السلام- على أركان عِظام يحتاجها الإنسان أشد من حاجته إلى الماء والهواء، فبعد الشهادتين؛ أكرمه ربه بالاتصال به في صلاته .. وأمره بالارتفاع بروحه على رغبات جسده بصيامه .. وأوجب عليه النفقة على مصارف محددة -إذا كان موسرا- بإخراج زكاته .. وإذا استطاع؛ حج بيت الله الحرام؛ الذي حجه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام !!

غير أن مجتمعات الحضارات المادية هدمت هذه الأركان العِظام -التي جاء بها جميع الرسل عليهم السلام؛ والتي جاء بها كذلك سيد الأنام عليه الصلاة والسلام- فهدم الله تعالى بنيانهم الديمقراطي من أساسه -والديمقراطية إلههم المعاصر؛ يشرعون من خلال آلياتها أهواء البشر-، حتى صارت قيمهم الكاذبة مثار ازدراء الناس، وأتاهم عذاب ضياع الأُسر؛ وعذاب الجرائم من حيث لا يشعرون، قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: ٢٦] !!

وكان نتيجة اتباعهم لأهوائهم أن صار لا همّ لهم سوى إشباع الشهوات، خاصة شهوتي اللسان والفرج، قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييْهِ وما بين رِجليْهِ أضمنُ له الجنةَ)[رواه البخاري (٦٤٧٤)] !!

أمّا شهوة اللسان: فأفرغوها في الكلام بالباطل في دفاعهم عمّا يشرّعونه من قوانين تخالف الفطرة؛ وكذلك في الغناء والأفلام التي استباحوا بها الحرام؛ بأشعار وحوارات ساقطة؛ وغير ذلك من آفات اللسان التي لا يقيمون لها وزنا؛ كالغيبة والنميمة والفجور في الخصومة في دعاياتهم الانتخابية البئيسة !!

وأمّا شهوة الفرج: فقد غرقوا في مستنقع الحرية البهيمية: من العلاقات المحرمة؛ والشذوذ؛ والتحول الجنسي؛ وبارات الخمور؛ ومراقص الشهوات الإباحية، وكان من أخطر وأكبر إفرازات هذه الحرية البهيمية جرائم القتل والاغتصاب التي لا حصر لها !!

وبعد، فإن متبعي الهوى بغير هدى من الله؛ سيعترفون يوم القيامة بتعطيلهم لأسماعهم وعقولهم؛ حين اتبعوا الهوى في الدنيا، حكى لنا القرآن الكريم قولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: ١٠] !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه خطر اتِّباع الهوى بغير هدى من الله تعالى !!

اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..

نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..

 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..

انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..

وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..