الحلقة السابعة عشرة بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ} [النجم: ٣٠]، قال أهل التفسير: “فأعْرِضْ عمَّن تولى عن ذكرنا، وهو القرآن، ولم يُرِدْ إلا الحياة الدنيا. ذلك الذي هم عليه هو منتهى علمهم وغايتهم. إن ربك هو أعلم بمن حادَ عن طريق الهدى، وهو أعلم بمن اهتدى وسلك طريق الإسلام” !!
المعنى الذي أشارت إليه الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ}؛ نشاهده ونسمعه واضحا جليا في هذا العصر، حيث توجه فئام من أصحاب المِلل الضالة من اليهود والنصارى والهندوس وغيرهم؛ بكافة إمكاناتهم نحو العمل لهذه الدنيا فقط؛ ونسيان الآخرة بالكلية !!
ولابد لي قبل أن أطرح موضوع المقال -وهو الحديث عن العلم الشرعي والعلم المادي من المنظورين: الإسلامي والغربي-، لابد لي من بيان أمر مهم:
وهو أننا نحن أهل الإسلام -ولله الحمد- لسنا في خصومة مع تعلم أمور الدنيا فيما ينفعنا؛ وييسر علينا أمور حياتنا، بل قد كان لعلمائنا الأجلاء السبق في فتوحات علمية مادية في شتى المجالات: الطبية، والفلكية، والرياضيات، والكيمياء، وغيرها، حتى الملاحة البحرية -طور المسلمون جهاز الاسطرلاب-، يشهد على ذلك كتاب التقويم البحري: (nautical almanac) -الذي يصدر سنويا عن المرصد البحري الأمريكي-؛ حيث فيه أسماء بعض النجوم -بمسمياتها العربية- مكتوبة باللغة الإنجليزية؛ في دلالة على استخدام المسلمين النجوم في الملاحة، قال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: ١٦] !!
ثم أخذ الغرب راية العلم المادي -مستفيدين مما كتبه وأصّله علماء المسلمين؛ ومنه العلم التجريبي- وانطلقوا بها ليسجلوا فتوحات جديدة ومهمة: كالكهرباء، والسيارة، والطائرة، وغيرها كثير !!
نحن -كمسلمين- نقر بما مر معنا آنفا -من اهتمام المجتمعات المادية بالعلم المادي- لكن ذلك لا يمنعنا من أن نقدم لهم النصيحة الصادقة في موضوع المعرفة العلمية المتوازنة تجاه الدنيا والآخرة؛ التي وفق الله تعالى أهل الإسلام لمعرفتها -كما سيأتي بيانه-، وقطعا تجهلها مجتمعات الحضارة المادية !!
والسؤال الذي يطرح نفسه:
ما المعرفة المتوازنة بين العلم الشرعي والعلم المادي من المنظور الإسلامي ؟
أولا: العلم الشرعي؛ وهو أشرف العلوم:
ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم لابد أن يعرفه كل الناس -قرابة ثمانية مليار نسمة- حتى يدخلوا في دين الله تعالى:
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] !!
قال الشيخ ابن باز: “على جميع الجن والإنس: أن يوحدوا الله، وأن يخصوه بالعبادة، وأن يؤمنوا بأنه ربهم وإلههم الحق، وأن يؤمنوا بأسمائه وصفاته، ويثبتوها له على الوجه اللائق بجلاله بلا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل” [مجموع فتاوى ابن باز (٢٣/ ٢٥٤)] !!
وقسم آخر: هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة من المكلفين:
قال الشيخ ابن باز: “على كل مكلف أن يتعلم ما لا يسعه جهله، من الرجال والنساء، حتى يتعلم ما أوجب الله عليه، وما حرم عليه، وحتى يؤدي ما أوجب الله عليه على بصيرة، وحتى يمتنع عما نهى الله عنه على بصيرة”[مجموع فتاوى ابن باز (٢٣/ ٢٥٠)] !!
وقسم ثالث: هو فرض كفاية؛ إذا قام به العدد الكافي من المسلمين سقط عن الباقين؛ مثال: الدعوة إلى الله تعالى:
قال الشيخ ابن باز: “فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا صالحا جليلا” [مجموع فتاوى ابن باز (١/ ١٣٣)] !!
ثانيا: العلم المادي:
هو عند المسلمين من فروض الكفايات؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، إذ لابد من وجود متخصصين في كل علم مادي يحتاجه المسلمون؛ كالطب، والهندسة، وغيرها من العلوم، شريطة ألا يتعارض العلم المادي المراد التخصص فيه -لا في موضوعه الأساسي؛ ولا في تفريعاته- مع الشرع الحنيف !!
ثم ننتقل للحديث عن الحضارات المادية ونسأل:
ما المعرفة -غير المتوازنة؛ للأسف الشديد- بين العلم الشرعي والعلم المادي من منظور الحضارات المادية ؟
أولا: العلم الشرعي:
ضل غير المسلمين جميعا عن أقسام العلم الشرعي الذي يرضاه الله -والذي بيّنته عند الحديث عن العلم الشرعي من المنظور الإسلامي- فاستحقوا لتمردهم على رسالة خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- دخول النار والخلود فيها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: ٦] !!
ثانيا العلم المادي:
لمّا أعرض غير المسلمين عمّا نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأقبلوا على دنياهم فقط؛ فُتِح لهم الكثير من لذاتها؛ وفرحوا بذلك، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: ٤٤]؛ وسيأخذهم الله بغتة وهم لا يشعرون !!
وصدق الله القائل: {ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ}؛ كان ينبغي أن يكون منتهى علمهم وغايتهم ما يخرجون به من نار جهنم؛ ويدخلون به جنات النعيم؛ ثم يلتفتون إلى العلم المادي -كما فعل المسلمون- بدلا من أن يكون منتهى علمهم وغايتهم الفتوحات المادية فقط !!
وأشنع ما جرهم إليه إقبالهم على الدنيا؛ هو أن جعلوا من العلم المادي إلها يُشرِّع لهم من دون الله: نظريات في الاقتصاد؛ وأخرى في الحياة الاجتماعية -إباحة الفاحشة والشذوذ-، كما اكتسحت فلسفة الإلحاد مجتمعاتهم البئيسة !!
ناهيك عن جهلهم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استعاذ فيه بالله تعالى من علم لا ينفع [رواه مسلم (٢٧٢٢)]، حيث انتشرت العلوم غير النافعة لديهم -مما حرّمه الإسلام- كالكهانة، والسحر، والتنجيم، وعلم الفلسفة -والمراد منه تحكيم العقل في العقائد والغيبيات-، وغير ذلك كثير !!
وبعد، فإنه قد يَرِدُ على ذِهن بعض المسلمين سؤال: ما الجزاء عند الله تعالى لمن أفاد البشرية -من غير المسلمين- باكتشاف مهم كالبنسلين مثلا ؟
الجواب:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) [رواه مسلم (٢٨٠٨)]، كما قال الله تعالى في شأنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: ٢٣] !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه المعرفة المتوازنة بين العلم الشرعي والعلم المادي !!
اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..