الحلقة السادسة بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ١]، قال أهل التفسير: “عَظُمَتْ بركات الله، وكثرت خيراته، وكملت أوصافه سبحانه وتعالى الذي نزَّل القرآن الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون رسولا للإنس والجن، مخوِّفًا لهم من عذاب الله” !!
كان هناك -في القرون القديمة الغابرة- إمبراطوريات مترامية الأطراف؛ كالفارسية والرومانية وغيرها، وكانت باقي الدول تدور في فلكها، وقد سادت تلك الحضارات فترة ثم بادت .. وفي عصرنا تتكرر الإمبراطوريات بمسمى جديد -الدول العُظمى- وما هي في باب الأخلاق والقيم بعُظمى !!
هذه الدول العُظمى -التي لا تدين بالإسلام- لم تنشر في الأرض عدلا؛ ولم تبنِ قيما، بل تنكبت وتنكرت للفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠]؛ فوقع بينهم بسبب ذلك اختلافات بغيضة على مصالح دنيوية عاجلة؛ أدت إلى قيام حروب طاحنة -ولا تزال قائمة- وانتشرت الإباحية؛ وتفاقمت الجريمة !!
بعد هذه المقدمة المختصرة عمّا ألمّ بالعالم من شرور بسبب الرؤى السياسية للدول العظمى -غير المسلمة-؛ أنتقل إلى الحديث عن تفرد الإسلام بدعوته العالمية؛ كما جاء ذلك صريحا في الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، وهي دعوة ربانية تُعبِّد الناس لخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم؛ الله تعالى العلي العظيم !!
والمدهش أن القرآن الكريم لم يؤخر إعلان عالمية دعوة الإسلام إلى آخر عهد النبوة -بعد أن خضعت الجزيرة العربية لدين الله وانقادت إليه-، كلا، بل جاء ذلك في الفترة المكية -والمسلمون في فترة الضعف-، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: ٧]، قال أهل التفسير في معنى {وَمَنْ حَوْلَهَا}: “ومَن حولها مِن سائر الناس” !!
والحكمة ظاهرة في إعلان عالمية الدعوة الإسلامية في الفترة المكية، بغض النظر عن المرحلة التي يكون فيها المسلمون -سواء كانت مرحلة ضعف أو قوة-، أقول الحكمة في ذلك ظاهرة: إذ بذلك يرسخ في حس المؤمنين ضخامة التكاليف الملقاة على عاتقهم، فالعالمية رسالتهم التي يجب أن يعوا محتواها؛ ويعملوا بمقتضاها، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [ص: ٨٧] !!
هذا، وإن أولى وأحق من قام بتكاليف الدعوة الإسلامية العالمية؛ هو من بُعِث من أجلها -صلى الله عليه وسلم-؛ وصرّح بها في قوله صلى الله عليه وسلم: (وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً) [رواه البخاري (٣٣٥)] !!
وقد أبدع الإمام ابن القيم في وصف حال أهل الأرض مع دعوة الإسلام العالمية؛ التي توفى الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- عليها، فقال: “فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب” [زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 145)] !!
وبعد أن التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى؛ قام المسلمون من بعده -خلال القرون- بتكاليف دعوة الإسلام العالمية، فسعُدت البشرية بالحضارة الإسلامية، ووصل الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، والمستقبل مشرق -بإذن الله تعالى- بتوسع دعوة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللَّهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخَله اللَّهُ هذا الدِّينَ) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣)] !!
هذا، وإن عصرنا الذي انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها؛ وأضحت مجتمعات الحضارات المادية أحوج ما تكون فيه إلى الإسلام؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ابراهيم: ١]؛ أقول والحالة كذلك في المجتمعات المادية؛ فإننا بحاجة ماسة إلى تذكير أنفسنا بعالمية الدعوة الإسلامية، ليس ذلك فحسب، بل ويجب علينا أن نرسخ ذلك في نفوس الناشئة؛ حتى يشبوا عليها ويألفوها؛ ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من التحدث بها أينما وجدوا؛ والعمل الجاد على تحقيقها !!
وأنا لن أتناول موضوع عالمية الإسلام من زاوية عظمة دين الإسلام؛ وشموليته؛ وأن الله تعالى أكمله وأتمه؛ كأكبر نعمة أنعم بها على الناس، فهذا أمر يعتقده كل مسلم مخلص صادق، وإنما سيكون مقالي جوابا على سؤال:
ما أعظم الجوانب المأساوية والمشينة في مجتمعات الحضارات المادية؛ التي من شأنها أن تُذكِّر وتُعمِّق في نفس المسلم واجبه تجاه العمل لدينه؛ سعيا إلى تحقيق عالميته التي تحدث عنها القرآن كثيرا، قال تعالى: {هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ابراهيم: ٥٢] ؟
الجواب: مآسي المجتمعات غير المسلمة كثيرة، أذكر منها اثنتين:
أولا: الجانب العقدي:
أينما وجه المسلم سمعه وبصره تجاه مجتمعات الحضارات المادية؛ فإنه يجدها تغرق في ألوان من العقائد الشركية الباطلة -من عبادة للصليب والأصنام والبقر وحتى الفئران-، ما يزيد يقينه بعالمية دعوة الإسلام؛ وأن الإسلام لا يرضى بترك هذه العقائد الشركية بدون بيان باطلها؛ وأن على المسلمين إخراج هؤلاء الضالين من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: ١٧٤] !!
ثانيا: الجانب القيمي:
في الوقت الذي جاء الإسلام بالقيم الصحيحة والأخلاق الرفيعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٤٥)]؛ نجد أن أصحاب العقائد الباطلة انتكسوا وارتدوا أسفل سافلين؛ في موضوع القيم والأخلاق، مع ادعائهم خلاف ذلك؛ بزعمهم أنهم ينشرون العدل والمساواة بين الناس، وهذا مصداق قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا • الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: ١٠٣ – ١٠٤] !!
والحديث يطول عن انهيار القيم في مجتمعات الحضارات المادية، غير أن هناك منظرا مأساويا أليما -يُحزِن كل عاقل- يعكس انعدام التكافل في تلك المجتمعات؛ التي تتفاخر بقوة اقتصادها ومتانته .. هذا المنظر هو ظاهرة وجود عشرات الألوف من المشردين في شوارع بعض المدن الأمريكية؛ الذين لا يجدون مأوى يؤويهم -يفترشون الأرض؛ ويلتحفون السماء؛ ويرفعون لوحات من الكرتون؛ تحمل عبارات التسول، لعلهم يجدون ما يسدون به جوعهم- حينها يتذكر المسلم قيم الإسلام العظيمة في موضوع التكافل؛ كالزكاة المفروضة؛ ومصارفها الثمانية؛ والتي منها سد حاجة الفقراء والمساكين، وكذلك التقرب إلى الله تعالى بالإنفاق تطوعا؛ في وجوه الخير والبر !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه أن الإسلام دعوته عالمية؛ لإخراج كافة الناس من الظلمات إلى النور !!
اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..