التأمل المفيد (٤١٨)

الحلقة التاسعة والتسعون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: ٩]، قال أهل التفسير: “الله عالم بما خفي عن الأبصار، وبما هو مشاهَد، الكبير في ذاته وأسمائه وصفاته، المتعال على جميع خلقه بذاته وقدرته وقهره” !!

ينبغي لنا كمسلمين -ونحن نرى اغترار الحضارات المادية بما وصلوا إليه من علوم- أن نتحدث لهم عن عِلم الله تعالى الواسع؛ كما دلت عليه الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}، علّهم يخرجوا من هذا الكفر والغرور والجحود؛ ويهتدوا إلى دين خالقهم العظيم، وهذه الدعوة لهم؛ إنما هي من رحمة الإسلام بهم !!

ندعوهم، لأنه قد وصل بهم الجهل بعلم الله تعالى وقدرته؛ إلى الظن أن علومهم المادية نتائجها مضمونة؛ ولا قدرة لأحد على إيقافها أو تعطيلها، ولم يعلموا أن مشيئة الله تعالى وإرادته المطلقة؛ فوق مشيئتهم وإرادتهم !!

إن آية واحدة في كتاب الله عن علمه بخلقه؛ وما وصلوا إليه من علوم؛ وقدرته عليهم، آية واحدة بمقدورها أن تُذهِب من نفوسهم هذا الغرور المُهلِك المشين -لو آمنوا بها وعقِلوها-، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: ٢٤]؛ ضرب الله تعالى بالزرع مثلا في الآية: يزرع المزارعون في تلك الحضارات بطرق علمية متقدمة؛ فيها إلمام كبير بعلم النبات -كعلم التربة قبل بذر النبات؛ ثم بعلوم بذر النبات وسقيه ورعايته وحصاده-، لكن إرادة الله تعالى ومشيئته المطلقة؛ قادرة على تدميره قبل حصاده؛ كما بينت الآية الكريمة .. وقُل مثل ذلك في جميع أمورهم، مشيئة الله وإرادته المطلقة تتدخل فيها متى شاء سبحانه وكيف يشاء ؟!!

ومن المضحك، أنهم بدلا من الاستسلام لله تعالى ومعرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العليا -ومنها أنه العليم؛ عالم الغيب والشهادة- ومن ثم يسألوه أن يعلمهم ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم؛ ويجنبهم من العلم ما يضرهم، أقول من المضحك أن صار أكبر همّ أرباب الحضارات المادية في الغرب -في باب العلوم- الازدياد من العلوم المادية -حتى لو كانت في مجالات تخالف الفطرة؛ أو تحمل الدمار للبشرية- وكذلك السعي بكل وسيلة لمعرفة ما توصل إليه منافسوهم في الشرق من دراسات وتقنيات؛ حتى لا يسبقوهم في النفوذ والاستعلاء، وبالمثل كذلك يفعل أرباب الحضارات المادية في الشرق، غير أن الفريقين أجهل الناس بعلم الله تعالى الواسع؛ الذي دلنا عليه كتابه الكريم -كما سيأتي بيانه-، وهو علم مصحوب بقدرة الله تعالى على أي شيء في السماوات والأرض؛ يفعل فيهما ما يشاء، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: ٩] !!

وفيما يلي صورة عظيمة من صور عِلم الله بالإنسان؛ كافية لزرع الخشية في النفوس منه سبحانه جلّ في علاه:

قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: ٤] !!

إذا كان البشر عاجزين عن إصدار إحصائية دقيقة عن أعداد الأحياء منهم على هذه الأرض -في فترة زمنية محددة، بحيث لا ينقص من تعدادهم أحد-؛ فإن الله تعالى يعلم تعداد كل من عاش من البشر على مر الدهور، قال تعالى: {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: ٩٤]، بل زاد علمه سبحانه عن ذلك؛ فعلِم ما يقع لكل واحد من خلقه بعد موته؛ في قبره في التراب، قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ۖ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: ٤]، قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير الآية: “الأرض تأكل الإنسان إذا مات، فالله تعالى يعلم ما تنقص الأرض منه، من أجزاء بدنه، ذرة بعد ذرة، ولو أكلته الأرض. وقوله: {مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُم}؛  قد يفيد أنها لا تأكل كل الجسم، وفي ذلك تفصيل؛ أما الأنبياء فإن الأرض لا تأكلهم مهما داموا في قبورهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ) [صححه الألباني في صحيح الجامع (٢٢١٢)]. وأما غيرهم فقد يبقى الجسم مدة طويلة لا تأكله الأرض إلى ما شاء الله، وقد تأكله الأرض، لكن إذا أكلته الأرض فإنه يبقى عَجْبُ الذَّنَب، وعَجْب الذَّنَب هو عبارة عن جزء يسير من العظم في أسفل الظهر، هذا يبقى بإذن الله لا تأكله الأرض، كأنه يكون نواة للجسم عند بعثه يوم القيامة” [تفسير العثيمين (٨/ ٣)] !!

فكيف وهو سبحانه -مع هذا العلم الواسع بأعداد خلقه؛ وعلمه بما يحصل لأجسادهم المقبورة- يعلم كذلك كل عمل يعمله الإنسان؛ بل يعلم ما يخفي في صدره من خير أو شر، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: ١٩]؟! فيجازي أهل الإحسان إحسانا؛ ويعاقب أهل الظلم على ظلمهم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: ٣١] !!

والثواب للمؤمنين يكون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: ١٤٨]، وكذلك التثبيت على شهادة التوحيد يكون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [ابراهيم: ٢٧] !!

وعقاب الظالمين يكون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: ٣٤]، واللعنة تلحقهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: ٦٠] !!

ولا يذهب الظن بأحدنا أن عذاب الكافرين في الدنيا لابد أن يكون باستئصالهم -والله تعالى قادر على ذلك-، إنما الذي ينبغي أن ندركه أن عذاب الله تعالى لهم في الدنيا متنوع وأليم؛ كحياة الضنك التي وعد الله بها المعرضين؛ وأنواع الجرائم المتفشية بسبب حياة الإباحية التي اختاروها؛ وما ينزل بهم من قوارع ربانية -أعاصير وحرائق وغيرها-، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: ٣١]؛ كل ذلك داخل في قوله تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه علمه الواسع ببني آدم؛ أحياء وأمواتا !!

اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..

نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..

 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..

انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..

وللا طلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..