الحلقة الخامسة والتسعون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: ٨٣]، قال أهل التفسير: “فتنزه الله تعالى وتقدس عن العجز والشرك، فهو المالك لكل شيء، المتصرف في شؤون خلقه بلا منازع أو ممانع، وقد ظهرت دلائل قدرته، وتمام نعمته، وإليه تُرجعون للحساب والجزاء” !!
دلت النصوص الشرعية على أن من أكبر الأسباب وراء كفر غير المسلمين؛ هو جهلهم بمقتضى ملك الله تعالى لهم، تلك الملكية التي نصت عليها الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} !!
وقد زخَر القرآن الكريم بالآيات الدالة على مُلكية الله تعالى للسماوات والأرض؛ وما فيهن من بشر؛ وغيرهم من سائر الخلائق، قال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ • قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ •قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ • سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: ٨٤-٨٩] !!
كما أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يعلن للناس أجمعين أنه مرسل ممّن يملك السماوات والأرض وما فيهما، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: ١٥٨] !!
هذا التكرار الكبير في كتاب الله تعالى؛ عن ملكه سبحانه للسماوات والأرض وما فيهن من بشر؛ وغيرهم من سائر الخلائق؛ يدل على أهمية معرفة مقتضى هذه المُلكية، إذ إن القصور في معرفتها -وهو قصور راسخ لدى الكافرين- دفعهم إلى الظن أن لهم فِعل ما يشاءون في هذه الدنيا، قال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: ٨٧] !!
وهذا هو اعتقاد وتصور جميع ملل الكفر عن الله تعالى -مالك الملك الخالق العظيم سبحانه- أنه إله لا يتدخل في حياة الناس؛ وكأنه لا يملكهم؛ أو لا يعرف ماذا يعني ملكه لهم -تعالى الله عمّا يقول الكافرون علوا كبيرا-؛ مع ابتداعهم أنواعا من الطقوس في معابدهم؛ زاعمين أن أداء هذه الطقوس هو فقط ما يحبه الإله ويرضاه !!
ولتقريب الموضوع في بيان ضخامة جُرم القصور في إدراك معنى مُلكية الله تعالى للبشر أقول: إن الواحد منا يدرك تماماً معنى مُلكيته لبيته الذي يملكه؛ بدليل عدم سماحه لأحد -أيا من كان- بالعبث فيه؛ كهدم أجزاء منه؛ أو تغيير معالمه؛ أو غير ذلك من أنواع التغيير، وإذا أجّره لأحد؛ فإنه يُلزِم المستأجر بعقد يملي عليه شروطه في كيفية الانتفاع من البيت .. ولله المثل الأعلى .. فالله تعالى يملك الإنسان نفسه؛ ويملك السماء وما ينزل منها وما يعرج فيها؛ ويملك الأرض؛ وما يلج فيها وما يخرج منها؛ فأنى للإنسان -المملوك لله تعالى- أن يتصرف في الأرض بمنأى عن منهج الله تعالى وهديه، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: ٥٦] ؟!!
إن حياة البشر على هذه الأرض لا تصلح ولا تستقيم أبدا إلا بالتمسك بالكتاب الذي أنزله مالكهم -سبحانه المستوي على عرشه في السماء-، قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: ١٥]، وهذا هو الوضع الطبيعي للعلاقة الصحيحة بين مالك الملك سبحانه وبين المملوك الفقير .. اتباع وحيه؛ والخوف من يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون؛ لمجازاتهم على أعمالهم !!
والمدهش في كتاب الله تعالى؛ أن يأتي ذكر مُلك الله تعالى وتدبيره لما في السماوات والأرض -بإيلاج الليل في النهار؛ وإيلاج النهار في الليل- يأتي للدلالة على ملكه وتدبيره للبشر، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ • تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ} [آل عمران: ٢٦-٢٧]، أقول يأتي ذكر هذين الأمرين في آيتين متتاليتين؛ بدأهما سبحانه بقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}، ليدل دلالة واضحة على ملك الله تعالى للبشر؛ وتدبيره لهم؛ وإيتاء الملك لمن يشاء؛ ونزعه ممّن يشاء، إذ إن من يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل -وهي أمور كبيرة وعظيمة- قادر على تدبير ما هو دون ذلك من الأمور؛ كتدبير أمور البشر، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: ٥٧] !!
وقد أدرك أهل الإسلام من كتاب ربهم مقتضى مُلكية الله تعالى لهم؛ فاستسلموا له بالعبادة والطاعة، وترجموا ذلك بالتعرف على أحكام المُكلفين الخمسة من شريعة ربهم -الواجب، والمستحب، والحرام، والمكروه، والمباح-، حيث لا يأتي المسلم ولا يذر؛ من قول أو عمل -طوال حياته؛ بعد بلوغ سن التكليف- إلا وهو يعلم حكم الله تعالى فيه؛ إن كان واجبا أو مستحبا أو حراما أو مكروها أو مباحا !!
وشرْع الله تعالى وهدايته للناس ممتد طوال تاريخ البشرية الطويل، ولك أخي القارئ الكريم أن تتأمل معي كيف هدى المالك سبحانه أوائل البشر حتى في كيفية دفن موتاهم، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: ٣١]، فكيف يظن الكفار أنهم أحرار في العيش على هذه الأرض وفق شهواتهم وأمزجتهم ؟!!
إن إدراك دعاة الإسلام لهذا الموضوع الخطير -جهل الكفار؛ بما تقتضيه مُلكية الله تعالى لهم؛ وأن ملكه سبحانه لهم يعني العيش على الأرض وِفق هديه- لَتُعين في دعوة غير المسلمين، وذلك بالتركيز عليه وبيانه؛ مستلهمين ذلك من تكرار القرآن الكريم له كثيرا؛ كما بينت ذلك في ثنايا المقال !!
وإنني عازم -بإذن الله تعالى- على كتابة المزيد من المقالات حول هذا الموضوع الكبير -ما تقتضيه ملكية الله تعالى للإنسان من معان عظيمة- سائلا الله تعالى أن ينفع به الإسلام والمسلمين !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وأدركنا فيه مقتضى ملك الله تعالى للسماوات والأرض وما فيهن من بشر وغيرهم !!
اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..