الحلقة العشرون بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى لنوح عليه السلام: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: ٤٦] !!
الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح}؛ تهدم فلسفة حرية الاعتقاد -كما سيأتي بيانه- التي انتشرت في مجتمعات الحضارات المادية انتشار النار في الهشيم !!
أمّا أهل الإسلام فيدركون -ولله الحمد- أنه لا محاباة في موضوع الاعتقاد الذي هو: الإيمان بالله الواحد الأحد؛ والبراءة من الشرك وأهله؛ وطاعته سبحانه فيما أمر؛ واجتناب ما عنه نهى وزجر، فهذا نوح عليه السلام يُوجَّه من خالق الكون سبحانه أن ابنك استحق العذاب مع بقية من كفر من قومك، ولم يُعط سُؤْله عليه السلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: ٤٥]، بالرغم من عظيم بذله؛ وطول دعوته لقومه؛ ألف سنة إلا خمسين عاما !!
بداية، وقبل أن أشرع في موضوع المقال -حرية الاعتقاد دمار لأصحابها-؛ أقول: صحيح أن الأرض لن تخلو من أناس يدينون بغير الإسلام، بل يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: ٢٥٦] .. لكننا نعلم أنهم على باطل؛ وأن الإسلام لا يقرهم على شركهم وباطلهم .. وقد أعد الله تعالى لمن يختار الشرك والكفر -الظالمين- نار جهنم، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: ٢٩] !!
والسؤال الذي يطرح نفسه:
حينما بُعِث رسولنا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة؛ سارع أهل الكتاب للتكذيب به صلى الله عليه وسلم؛ واختاروا الكفر على الإيمان: ما حقيقة مضمون الفساد الذي اختاروه، وما أثر هذا الفساد عليهم خلال تاريخهم الطويل؛ الذي أضحى حرية في الاعتقاد ضمت حتى الملاحدة اللادينيين ؟
الجواب:
في القرن السابع للميلاد -الذي بُعِث فيه خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم- وقع أمر جلل وخطير -يعد شرارة انطلاق حرية الاعتقاد الباطلة لدى أهل الكتاب؛ حين سوغوا لأتباعهم اختيار الكفر على الإيمان- وذلك حين قام اليهود والنصارى بتحريف ما جاء في التوراة والإنجيل؛ من بشارة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- متجاهلين علمهم أن الله تعالى قد أخذ الميثاق على جميع الأنبياء؛ أن يؤمنوا بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم رسولا؛ وأن يبشروا به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: ٨١] !!
وكانت حقيقة مضمون هذا الفساد الذي اختاروه -بالتحريف والتكذيب ببعثته صلى الله عليه وسلم- هو تمردهم على الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون حياة المجتمعات البشرية وِفقَهُ في هذه الدنيا؛ وهو:
إيمان بالله تعالى رب العالمين؛ ومن ثم استسلام جميع أفراد المجتمع المؤمن بالله لدستور واحد هو القرآن الكريم؛ الذي نظّم حياة الناس؛ ذكورا وإناثا؛ صغارا وكبارا؛ حكاما ومحكومين؛ في جميع جوانب الحياة؛ سواء كانت الأمور التعبدية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو العسكرية، وغيرها من الجوانب المهمة !!
وأضيف كذلك: إن تمرد اليهود والنصارى على بعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم؛ وتمردهم على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع في ظل الإسلام -كما بينته آنفا- أدخلهم في بوابة الكفر الخطيرة؛ باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، وبدلا من توارث أجيالهم للتوحيد؛ صاروا يتوارثون الكفر؛ فباءوا بمقت من الله تعالى؛ وخسارة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر: ٣٩] !!
والمدهش في كتاب ربنا أنه لم يخاطب المؤمنين فقط بالوضع الصحيح للمجتمعات؛ وهو الاحتكام إلى دستور واحد -القرآن الكريم-، بل كذلك خاطب أهل الكتاب بنفس الأمر، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ • يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: ١٥-١٦]، بين سبحانه لأهل الكتاب أن الاحتكام إلى القرآن الكريم هو السبيل الوحيد للخروج من الظلمات إلى النور؛ ومن الشقاء إلى السعادة؛ ومن دمار المجتمعات إلى الرقي في القيم واستتباب الأمن وترابط الأُسر !!
هذا، وقد ضربت أمة الإسلام المثال الأكمل للعالمين -لأكثر من ألف وأربعمائة عام-؛ وذلك بانقياد أمة مترامية الأطراف -شملت أراض واسعة في آسيا وأوروبا وأفريقيا- إلى دستور واحد -القرآن الكريم- وازدهرت وشيدت حضارة عظيمة، ومدحها رب الأرض والسماوات، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: ١١٠]، نعم -صدق الله العلي العظيم- لو آمن أهل الكتاب بالله تعالى؛ وحكّموا القرآن الكريم في مجتمعاتهم لكان خيرا لهم !!
وقد ولّد هذا الكفر؛ ونبذ كتاب الله تعالى -الذي يعصم من الفتن والضلالات- ولّد لدى أهل الكتاب -خلال القرون- ألوانا من الفلسفات الضالة؛ من أعظمها حرية الاعتقاد بمفهومه الفج المعاصر في مجتمعات الحضارة المادية: فصل الدين عن الحياة بالكلية؛ ودستور يكفل حرية الاعتقاد !!
وحتى نستوعب حجم الدمار للمجتمعات الذي يسببه هذا الضلال البعيد -حرية الاعتقاد- بتمردهم على خالقهم العظيم؛ ودستور القرآن الكريم-: فقد بين الله تعالى أن هؤلاء المجرمين لو شرّع الله لهم ما يوافق أهواءهم؛ لتعدى فسادهم على أنفسهم إلى إفساد السماوات والأرض ومن فيهن؛ بما تمليه أهواؤهم من ضلال في كل أمر؛ ولربما وجّهوا السماوات والأرض -بأمر منهم عابث- تتصادم على إثره النجوم، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: ٧١] !!
لكن الله تعالى (الحق) -مالك السماوات والأرض- لا يَتَّبِعُ أهواء الضالين المضلين، فارتد فساد حرية الاعتقاد عليهم -تدميرا وبغيا وتفرقا وانشقاقا حادا؛ كما نراه اليوم في أمريكا- وعوقبوا بأنواع العقوبات الربانية لعلهم يرجعون، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: ٤١] !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه أن حرية الاعتقاد دمار لأصحابها !!
اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..