الحلقة الخامسة عشرة بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: ٢٦٠] !!
لفتة عظيمة من الخليل إبراهيم عليه السلام في الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ}، إذ بالرغم من كونه يوحى إليه؛ إلا أنه طلب من ربه -ليزداد يقينه- طلبا يلامس مشاعر كل إنسان -إلا من طمس الله بصيرته- وهو أن الله تعالى يحيي الموتى؛ وأن كل ما يخلقه عظيم؛ وأن كل ذلك عليه يسير، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت: ١٩] !!
قال الشيخ ابن عثيمين عن إحدى الفوائد من آية التأمل في المقال: “أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه لقوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}، لأنه إذا رأى بعينه لا شك أنه يزداد”[تفسير القرآن للعثيمين (٥/ ٢٣٨)] !!
وقال أيضا رحمه الله عن فائدة أخرى من قول إبراهيم عليه السلام: “{بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: “أن عين اليقين أكمل من خبر اليقين، ولهذا جاء في الحديث: (لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ) [صححه الألباني في صحيح الجامع (5374)].” [تفسير القرآن للعثيمين (٥/ ٢٣٩)]، أي إن كون إبراهيم عليه السلام يعلم أن الله قادر على إحياء الموتى؛ فهذا هو خبر اليقين، أما حينما أراه الله إحياء الطير الميتة؛ فصار لديه عين اليقين !!
بناء على الفائدتين اللتين ذكرهما الشيخ ابن عثيمين وهما: لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه، والفرق بين خبر اليقين وعين اليقين، أقول:
مع أن المسلم يدرك أن ما حصل لإبراهيم عليه السلام من إحياء الله تعالى له الطير الميتة؛ لن يتكرر مع أحد منا، غير أن الأمر الآخر -زيادة اليقين- الذي حصل لإبراهيم؛ فانتقل من خبر اليقين إلى عين اليقين؛ هذا الانتقال متيسر للمسلم ولله الحمد في هذا العصر، وفيما يلي بيانه:
يحصل لنا عين اليقين إذا تفكرنا في عظيم ما خلق الله تعالى -في عصرنا- من خلال مشاهدتنا للفتوحات العلمية التي فتح الله بها على علماء المادة في شتى العلوم -كعلوم الأحياء، وعلوم الفلك، وعلوم البحار، وغيرها من العلوم- وهي فتوحات وعد الله تعالى أنه سيريها الناس عموما -والمكذبين على وجه الخصوص-، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: ٥٣] !!
والأمثلة على انتقال المسلم من خبر اليقين إلى عين اليقين بالتفكر في عظيم ما خلق الله تعالى كثيرة، من ذلك:
الجبال: أخبرنا الله تعالى عن دور الجبال في تثبيت الأرض حتى لا تضطرب؛ وهذا خبر اليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: ٣١] .. ثم ننتقل إلى عين اليقين إذا ما شاهدنا وقرأنا عن الفتوحات والنظريات العلمية المتعلقة بالجبال -وهي كثيرة- ليرى المشاهد بِعينِهِ دور الجبال في استقرار الأرض وعدم اضطرابها الذي تحدث عنه القرآن الكريم !!
والسؤال الذي يطرح نفسه:
كيف نُعير عبادة التفكر في عظيم ما خلق الله الاهتمام الكافي؛ في عصر صارت شروح العلوم المختلفة -التي ذكرتها آنفا- في متناول يد كل إنسان؛ مقروءة، ومرئية، ومسموعة ؟
الجواب: يكون ذلك بأمرين:
أولا:
إدراك أهمية العلم الشريف -عِلم معرفة الله، إذ من أسماء الله تعالى الحسنى: (الخالق والخلاق)؛ المرتبطان بموضوع المقال- وما قال العلماء عن هذا العلم، من ذلك:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “اقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها، وإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود” [الصواعق المرسلة (١/ ١٥٠)] !!
ثانيا:
تفكُّر المسلم في عظيم ما خلق الله تعالى على النحو التالي:
البداية الصحيحة تكون بالعناية بتدبر آيات الكتاب الحكيم الكثيرة التي تحدثت عن عظيم ما خلق الله تعالى؛ ومن ثم تصنيفها إلى موضوعات:
جمع الآيات التي تتحدث عن الإنسان ..
والآيات التي تتحدث عن السماوات والأرض والجبال ..
والآيات التي تتحدث عن الماء والبحار والأمطار ..
والآيات التي تتحدث عن النبات ..
وهكذا مع باقي الموضوعات عن عظيم ما خلق الله تعالى ..
ثم يبدأ المسلم بإدارة وقته مع وسائل التواصل إدارة ذكية -يزداد بها يقينه؛ وتنفعه في آخرته- بأن يجعل من موضوعات الآيات التي تدبرها عن عظيم ما خلق الله؛ دليلا له في البحث في منصات التواصل -خاصة اليوتيوب- عن الفتوحات العلمية المرتبطة بموضوعات هذه الآيات، على سبيل المثال:
قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ٢١]، يبحث عن المقاطع التي اعتنت بالفتوحات العلمية عن عظيم خلق الله تعالى للإنسان؛ وهي كثيرة جدا، منها:
أخبرنا القرآن الكريم عن كون ماء الرجل سببا في جنس المولود، وهذا خبر اليقين، قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ • مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ} [النجم: ٤٥-٤٦]، ثم ننتقل إلى عين اليقين إذا ما شاهدنا وقرأنا عن الاكتشاف العلمي الجيني بما أخبرنا به القرآن الكريم !!
وهكذا، سيجد المسلم أن لكثير من الآيات التي تدبرها؛ مقاطع في اليوتيوب عن الفتوحات العلمية فيما خلق الله تعالى؛ تزيد في يقينه؛ وتنقله من خبر اليقين إلى عين اليقين، فهي مشاهد لم يشاهدها الناس في السابق؛ مع أن القرآن الكريم قد ألمح إليها !!
وبعد، فإن ممّا يزيد من تعظيمنا لكتاب ربنا -الذي يزداد به يقيننا- بالتفكر في آياته؛ هو إدراكنا أن مجتمعات الحضارات المادية -التي أعرضت عن كتاب الله تعالى- ما زادتهم الفتوحات العلمية المادية إلا بُعدا عن الاستسلام لله رب العالمين؛ حين جعلوا من العلم المادي إلها يُشرِّع لهم من دون الله تعالى؛ نظريات في الاقتصاد؛ وأخرى في الحياة الاجتماعية -إباحة الفاحشة والشذوذ-، كما اكتسح الإلحاد أساتذة الجامعات؛ كدارون ونظريته الدارونية؛ وغيره كثير ممن أفسدوا عقول أتباعهم !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبيّن لنا فيه أهمية عبادة التفكر فيما خلق سبحانه !!
اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..