التأمل المفيد (٤٣٢)

الحلقة الثالثة عشرة بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: ٥٨] !!

الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-؛ جاءت بأسلوب ضرْب الأمثلة لتقريب المعنى العقدي المراد إيصاله؛ وهو ضرورة اتٍّباع هدى الله تعالى؛ ليفوز الإنسان في الدنيا والآخرة، حيث أن ذلك هو دأب الشاكرين؛ كما جاء في آخر الآية الكريمة: { كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} !!

لكن المدهش في المثال الذي جاء في الآية الكريمة عن زراعة الأرض -وهو أنه لا جدوى مرجوة من الزرع في أرض سَبِخة؛ لا تُخرج النبات إلا عسرًا رديئا لا نفع فيه، وإنما الزرع الذي يرجو الإنسان منفعته ومردوده الربحي المجزئ؛ هو الزرع في أرض نقية إذا نزل عليها المطر تُخْرج نباتًا -بإذن الله ومشيئته-، أقول المدهش في المثال المذكور في الآية الكريمة أنه ألمح -بطريقة غير مباشرة- إلى موضوع غاية في الأهمية؛ من شأنه أن يحقق لنا رضا الله تعالى في كل أمر من أمور حياتنا: ألا وهو دراسة الجدوى !!

إن دراسة الجدوى الذي ألمح إليه المثال في الآية الكريمة؛ يعد سبقا إسلاميا في عالم الإدارة، إذ لا يكاد يقوم أي مشروع من المشاريع الحيوية في العالم -في عصرنا- إلا ودراسة جدوى المشروع قد سبقت قيامه؛ لاتخاذ القرار في المضي فيه أو إلغائه !!

لكن المسلمون تفردوا في دراسة الجدوى لمشاريعهم -بفضل الشريعة الغراء؛ التي غطت كل تعامل تحتاجه الأمة المسلمة؛ في جميع جوانب حياتها-، أقول تفرد المسلمون في دراستهم للجدوى بأن جعلوا أعظم مؤشر فيها هو مدى تحقيق المشروع للعبودية لله تعالى -باتٍّباع نهجه القويم-، كما يُدرج في الدراسة باقي المؤشرات التي يعرفها أهل الاختصاص بطبيعة المشروع !!

وما تفرد به المسلمون -الذي ذكرته آنفا- هو بالتحديد ما تفقده مجتمعات الحضارات المادية في موضوع دراسة الجدوى للمشاريع -وهو رضا الله تعالى- لتحديد الاتجاه الصحيح للبوصلة؛ وحتى تكون الأولويات في تلك الدراسة في مصلحة الرقي بالإنسان نحو الهدف الذي خُلِق من أجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] !!

في تلك المجتمعات المادية قد تقوم المشاريع الضخمة والجبارة وذات المردود المادي الهائل؛ التي أوصت بنجاحها دراساتهم للجدوى، لكن تلك الدراسات لا يعنيها تأثير المشاريع على سلامة معتقد الإنسان؛ ولا على سلامة نمط حياته من ارتكاب الآثام؛ التي يبغضها الله -كما سيأتي بيانه-، ليبقى الناس بعد ذلك كالأنعام؛ لا همّ لهم إلا الأكل والشرب، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: ٤٤] !!

وفيما يلي أستعرض ضياع البوصلة -رضا الله تعالى- في دراسات الجدوى لدى المجتمعات المادية في أهم مجال: وهو مجال التعليم؛ والمفاسد التي ترتبت على ذلك، فأقول وبالله التوفيق:

تتفاخر مجتمعات الحضارة المادية بتقدمها في مجالات العلم المادي؛ وترى أنها سبقت مجتمعات المسلمين بسنوات ضوئية -وهذا صحيح- غير أنها -وللأسف الشديد- لم تضع ضمن مؤشرات دراسة جدوى مشاريعها التعليمية؛ مؤشر اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ الذي أرسله الله تعالى للناس أجمعين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: ٢٨]، ففقدوا -حين نبذوا منهج الله تعالى- الاتجاه الصحيح للبوصلة -رضا الله تعالى- وأخذت تلك المجتمعات المادية تهوي -لِشركها وكفرها- إلى مكان سحيق؛ لا يعلم خطره عليهم إلا الله، قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: ٣١] !!

ولم يكتفوا بعدم إدراج مؤشر رضا خالق الكون سبحانه -باتٍّباع نهجه- ليكون أهم مؤشر من مؤشرات دراسة الجدوى لمشاريعهم التعليمية، بل تعدوا ذلك بوضع مؤشر باطل؛ أسموه: (الدراسات الإنسانية) ليرتقوا بالإنسان بدراساتهم -زعموا- إلى الأفضل !!

جاء في مقال بعنوان: (History and Branches of Anthropology) (تاريخ وأقسام الدراسات الإنسانية)؛ عن هدف الدراسات الإنسانية أنه: “دراسة أصل وتطور المجتمعات والثقافات البشرية” .. وتجاهلوا في تلك الدراسات -عمدا- أن تاريخ البشرية وثقافتها -منذ آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة- هو تاريخ تفاعل الأجيال عبر القرون مع وحي السماء -إمّا برفضه أو القبول به- كما بين ذلك خالق البشرية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: ٣٦] !!

والناظر اليوم إلى القيم الهابطة التي انحدر إليها الغرب؛ يعلم إلى أي مدى من الفساد وصلت بهم مؤسساتهم التعليمية؛ التي يتبجحون فيها بفصل الدين عن الحياة؛ حتى جرّموا في مدارسهم وجامعاتهم أي تدخل إيجابي من الأساتذة في أمر الشذوذ الجنسي؛ أو التحول الجنسي لطلابهم، ناهيك عن إباحة الفاحشة فوق سن الثامنة عشرة، وناهيك عن حرية الاعتقاد؛ التي فشا بسببها الإلحاد في مجتمعاتهم !!     

كذلك تتفاخر مجتمعات الحضارة المادية في الجانب التعليمي؛ بتقدمها في العلوم العسكرية -كليات ومعاهد ومدارس عسكرية- غير أنها للأسف الشديد لم تضع ضمن مؤشرات دراسة جدوى مشاريعها التعليمية العسكرية رضا خالق الكون سبحانه؛ ففقدت بذلك الاتجاه الصحيح للبوصلة؛ وتركت العدل في التعامل مع الدول؛ ونهجت -بعقائدها العسكرية- نهج  البغي والعدوان الذي نهى الله عنه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: ٩٠] !!

لقد أسفر بغي بعضهم على بعض في القرن الماضي فقط عن حربين عالميتين؛ قُتِل فيها الملايين من البشر -ولا يزالون- كحرب روسيا وأوكرانيا .. أمّا بغيهم على المسلمين فحدث ولا حرج: من ذلك بغيهم على المسلمين في فلسطين المحتلة؛ واغتصاب أراضيها؛ وحرب الإبادة الجماعية في غزة؛ التي فضحت -ولله الحمد- قيمهم الباطلة التي أسموها بالقيم الديموقراطية !!

وبعد، فإن أخطر ما يهدد هذه الحضارات المادية هو عدم استشعارها لقُبح قيمها؛ ولا لقُبح فِعالها، وهذا والله هو العمى بعينه؛ الذي سيقود إلى انهيارهم -إذ معرفة الخلل والاعتراف به وتصحيحه هو طريق النجاح والفلاح- ولكنهم قوم لا يعقلون، قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: ٤٨] !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبيّن لنا فيه ضرورة جعل رضا الله تعالى؛ الهدف الأسمى والرئيس في دراسة جدوى جميع مشاريعنا !!

اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم اليهود المجرمين الغاصبين .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..

نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..

 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..

انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..

وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..