التأمل المفيد (٤٢١)

الحلقة الثانية بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: ٤٦] !!

من المهم والضروري في عصر أبدع فيه المتخصصون في الطب عن الحديث عن دماغ الإنسان؛ وخلاياه العصبية المليارية؛ وجهازه العصبي المتحكم في أنظمة الجسد الأخرى؛ وغير ذلك من الأمور -حتى صار للدماغ شأن عظيم في نفوس الناس-، أقول من المهم والضروري -والحال كما ذكرت عن الدماغ- أن نُذكِّر أنفسنا بدور القلب الحقيقي والكبير في مسيرة حياة الإنسان؛ والذي يفوق بمراحل دور الدماغ، غير أن دوره انحسر في مجتمعات الحضارات المادية؛ إلى أن يكون القلب فيها مضخة للدورة الدموية فقط؛ وإلى الحديث عن أمراضه العضوية وخطرها؛ وطرق الوقاية منها؛ وطرق علاجها !!

ونحن لا ننكر أن مجتمعات الحضارة المادية -التي لا تعترف للقلب بدوره المتفرد في حياة الإنسان- قد أبقوا للقلب دورا واحدا فقط وهو العلاقة الرومانسية بين الجنسين؛ حيث باتت صورة القلب لصيقة لرسائلهم الحميمية .. ولو أنهم استسلموا لله؛ وعرفوا دور القلب العظيم -كما سيأتي بيانه- لكان خيرا لهم !!

وإن ممّا زاد من قناعتي بضرورة الكتابة عن القلب من منظور إسلامي؛ هو أن الأمر لم يقتصر على إعطاء دماغ الإنسان -في مجتمعات الحضارة المادية- أدوارا هي ليست له في أصل خلقته، بل انتقلوا إلى مخاوف مستقبلية خطيرة بسبب الذكاء الاصطناعي، هذه المخاوف أفصح عنها أكبر خبير في الذكاء الاصطناعي: (جيفري هنتون) (Geoffrey Hinton)؛ في مقابلة أجريت معه في البرنامج الأمريكي الشهير (The 60 Minutes Interview)؛ قال فيها بأن الروبوت ذا الذكاء الاصطناعي سيتفوق مستقبلا على الإنسان؛ وأننا نطور شيئا لا ندري ما هي نهايته؛ ولا أين سيتجه مع تطوره؛ وقد يقوم بأعمال تضليلية وتخريبية للبشر !!

وأقول إن مخاوفه في مكانها، حيث إنه لا قلب أصلا للذكاء الاصطناعي؛ يميز به الحق من الباطل؛ والهدى من الضلال !!

وقد دعته هذه المخاوف إلى الاستقالة من شركة قوقل العملاقة عام ٢٠٢٣ من الميلاد !!

وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه:

ماذا قال خالق الإنسان عن القلب؛ وعن دوره المتفرد في سير صاحبه في الدنيا إلى الله تعالى؛ الذي يحتاج فيه إلى أن يعقِل الحق من الباطل؛ والهدى من الضلال ؟

الجواب:

أول ما يلفت نظر المسلم في كتاب الله تعالى عن القلب؛ أن الله بيّن انفراده سبحانه بخلق الإنسان -بما في ذلك قلبه- فلم يُشهِد سبحانه ولم يُطلِع أحدا على ذلك، قال تعالى: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف: ٥١]، وعليه فإن المصدر الوحيد الصادق في الحديث عن القلب؛ وعن دوره في حياة الإنسان؛ هو الوحي !!

وسؤال آخر يطرح نفسه:

كم جاء ذكر دور القلب في حياة الإنسان في الوحي المطهر، وما مجالات هذا الدور العظيم ؟

أولا:

جاء الحديث عن القلب في القرآن الكريم في نحو مائة وواحد وستين آية كريمة؛ تحت المفردات: (قلب، قلوب، أفئدة، الأفئدة، فؤاد، صدر، صدور)؛ كل هذه النصوص القرآنية تدل على أن القلب يعقِل !!

ومع معرفتنا بالدماغ؛ وجهازه العصبي الذي يتحكم في أنظمة جسد الإنسان: إلا أنه لم ترد في كتاب الله أي آية تدل على أن الدماغ هو المصدر الذي يعقِل به الإنسان الحق من الباطل؛ والهدى من الضلال، وهنا كلام نفيس للإمام ابن القيم -في حديثه عن العقل- قال: “فالصواب أن مبدأه ومنشأه من القلب، وفروعه وثمرته في الرأس، والقرآن قد دل على هذا بقوله: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا} [الحج: ٤٦]، وقال: {إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكرَى لمنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: ٣٧]، ولم يُرد بالقلب هنا مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات بل المراد ما فيه من العقل واللب، وبهذا يزول الالتباس في هذا المقام الذي طال فيه الكلام وكثر فيه النزاع والخصام، والله أعلم وبه التوفيق للصواب.[مفتاح دار السعادة (1/ 195)] !!

ثانيا:

المجالات الإيجابية والسلبية لدور القلب الكبير في حياة الإنسان؛ وفق ما ورد في نحو مائة وواحد وستين آية كريمة:

المجال الإيجابي: قلوب أهل الإيمان:

وأبدأ بنزول الوحي على قلوب الرسل عليهم السلام، قال تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ}, ثم إن قلوب الرسل وأتباعهم تهتدي، قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}, وتعقِل، قال تعالى: {فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا}, وتتقي الله، قال تعالى: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وكذلك قلوب المؤمنين؛ تخشع، وتلين، وتوجل، وتطمئن، وتنيب، وتطهُر، وتنشرح، وتُمحَّص، ويُربط عليها؛ كل ذلك وغيره أدلته في القرآن الكريم !!

المجال السلبي: قلوب الكافرين والمنافقين:

وأمّا قلوب الكافرين والمنافقين فتمرض مرضا معنويا، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، ولا تفقه، قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا}، وتنافق، قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}، وتشمئز، قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: ٤٥]، وكذلك قلوب الكافرين والمنافقين؛ تقسو، وتأبى، وترتاب، وتنكر،  وتأثم، وتتكبر، وتزيغ، ويُختم عليها؛ كل ذلك وغيره أدلته في القرآن الكريم !!

وكذلك زخرت السنة المطهرة بالحديث عن دور القلب الكبير في مسيرة حياة الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ) [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: (تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه) [رواه مسلم (١٤٤)] !!

هذا، وإن أداء شعائر الله تعالى وفرائضه -الصلاة مثالا-؛ لِإقامة ذكر الله، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: ١٤]؛ هو السبيل الأعظم لاطمئنان القلوب وصلاحها، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: ٢٨] !!

وهكذا يتبين لنا أن السبب الرئيس لانهيار القيم في مجتمعات الحضارة المادية؛ وتكالب الشرور عليهم؛ واندلاع الحروب الطاحنة بينهم؛ هو جهل تلك الحضارات بأن القلب يعقِل؛ وأن له دورا كبيرا في مسيرة حياة الإنسان نحو الخير؛ متى ما استسلم الإنسان لخالقه العظيم !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه أهمية القلب القصوى في مسيرة حياة الإنسان !!

اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..

نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..

 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..

انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..

وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..