الحلقة الواحدة بعد المائة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: ٧٨] !!
تفتخر وتعتز دول الحضارات المادية بدساتيرها؛ التي انبثقت من عقول البشر؛ وصاغها لهم البشر، يعتزون بهذه الدساتير بالرغم من الانحدار المُدوي لتلك المجتمعات؛ نتيجة لما احتوته دساتيرهم من قصور، حيث كتبها أناس لا قدرة لهم على خلق الإنسان؛ ولا بتكفل رزقه؛ ولا عِلم لهم بنهايته المحتومة؛ ولا يملكون وقف بعثه يوم النشور؛ ليُحاسب على مثقال الذرة من العمل؛ خيرا كان أم شرا !!
وفي المقابل -ولله الحمد والمنة- لا تعتز الأمة المسلمة بدساتير بشرية؛ بل تعتز بكتاب كريم نزل من خالقها العظيم؛ موصوف بأوصاف الكمال والجلال: فهو مبين، وهدى، ونور، وحق، ورحمة، وشفاء، وغير ذلك من الأوصاف القرآنية الكثيرة لكتاب الله تعالى !!
إنه الكتاب العزيز الذي ضم بين دفتيه الشريعة الغراء، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: ١٨] .. وبيّن فيه سبحانه سُننه التي لا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: ٤٣] .. من حكم به عدل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: ٥٨] .. يرفع الله به أقواما؛ ويضع به آخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ) [رواه مسلم (٨١٧)] !!
وحتى يكون العلم والوعي بكتاب الله العزيز غاية عُظمى لكل فرد من أفراد الأمة المسلمة -وليس حِكرا على فئة قليلة؛ كما هو الحال بالنسبة لدساتير الحضارات المادية؛ التي لا يستوعبها إلا النخبة من رجال القانون-، فإن الوحيين المطهرين جاءا بالنصوص الكثيرة التي جعلت من الاهتمام بكتاب الله تعالى -علما وعملا وتعليما- أقصى ما يتمناه كل مسلم في دنياه -كما سيأتي بيانه-، وما الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}؛ إلا لون واحد فقط من ألوان التحفيز الرباني العظيم للعناية بكتاب الله تعالى، إذ يستشعر المسلم عند تلاوة الآية أن صلاة الفجر -التي جاءت السنة المطهرة بإطالة القراءة فيها- تشهدها الملائكة الكرام عليهم السلام، وفي هذا تحفيز عظيم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد !!
إن التحفيز على الاستماع والإنصات لكتاب الله تعالى ضروري لكل فرد مسلم؛ حتى يعرف حق الله تعالى عليه؛ وحق رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وحقوقه وواجباته هو؛ وحقوق وواجبات الآخرين من حوله !!
وبما أن نصوص التحفيز لهذا الموضوع العظيم كثيرة؛ فإنني أقف مع حديث واحد فقط؛ عن فضل العالم؛ وفضل معلم الناس الخير، وأجزم أن المسلم متى ما رسخت معاني هذا الحديث في نفسه فإنه سيُقبِل لا محالة على طلب العلم وتعليمه للناس !!
قال صلى الله عليه وسلم: (فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَه، و أهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ)[صححه الألباني في صحيح الجامع (4213)] !!
يا لله .. هلا وقفنا وقفة صادقة؛ نتأمل فيها قوله صلى الله عليه وسلم: (فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم) .. إنه ومع عِلمنا بفضل الرسول صلى الله عليه وسلم على الناس؛ وأنه لا يمكن لأحد أن يبلغه؛ إلا أن الحديث جاء بمثال للتقريب لبيان أن الفرق شاسع جدا بين العالم والعابد !!
وللتأكيد مرة أخرى على أن الفرق شاسع بين العالم والعابد؛ جاء صلى الله عليه وسلم بمثال آخر فقال: (وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ) [صححه الألباني في صحيح الجامع (٦٢٩٧)] .. إذن الفرق في الفضل كبير جدا، ولا أظن بالمسلم الصادق إلا وينشدّ بقوة إلى بدء الطريق ليحوز شيئا من هذا الفضل؛ بالحرص على الاستفادة من وقته -الذي قد تضيعه الصوارف؛ ومنها الجوال- بدءا بالحفظ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ثم حضور أو سماع ما ينفعه من دروس العلماء !!
ثم يرتفع تحفيزه صلى الله عليه وسلم للمسلم المحب للعلم الشرعي درجة ومرتبة أعلى؛ حين يأخذ في تعليم الناس الخير، عندها ينتظر الجزاء الذي يصعب أن يتخيله الإنسان مهما حاول، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَه، و أهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ) .. يا لله .. الله تعالى يثني على معلم الناس الخير؛ والملائكة عليهم السلام يدعون له -والملائكة خلق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى-؛ ثم أهل السماوات والأرض؛ وذكر منهم النملة تدعو له -ولا أحد يعلم عدد النمل إلا الله تعالى- وحتى الحوت بأعداده المهولة؛ وغيره من كل ما خلق الله تعالى في السماوات والأرض يدعون لمعلم الناس الخير !!
هذا؛ وإن أصدق من تجاوب وتأثر بهذا التحفيز الرباني تجاه طلب العلم؛ والعمل به؛ وتعليمه للناس؛ هم الصحابة رضوان الله عليهم، إذ سلكوا لذلك طريقا صحيحا وجادا، عن أبي عبد الرحمن قال: “حدَّثَنا مَن كان يُقرِئُنا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّهم كانوا يَقتَرِئونَ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشْرَ آياتٍ، فلا يأخُذونَ في العَشْرِ الأُخرى حتى يَعلَموا ما في هذه منَ العِلمِ والعَمَلِ، قالوا: فتعلَّمْنا العِلمَ والعَمَلَ” [الدر المنثور (٢/ ٦٩)]، وبفضل الله عليهم؛ ثم بفضل هذه الجدية وهذه الرغبة الصادقة منهم -رضوان الله عليهم-؛ تجاه تعلم دينهم؛ دخل الناس في دين الله أفواجا في سنوات معدودات قليلة !!
ويبقى لنا بعد ذلك أن ندرك أن درجة الفضل تزداد مع زيادة العلم والعمل؛ وزيادة نفع الناس به، ولذا يحظى بأعلى هذه الدرجات من الفضل؛ العلماء الجهابذة الكِبار، ولكن -لفضل الله تعالى وكرمه وجوده الواسع- لا يُحرم بشيء من هذا الفضل الدعاة، بل لا يُحرم بشيء من الفضل حتى من بلّغ ولو آية واحدة، قال صلى الله عليه وسلم: (بلِّغوا عنِّي ولو آيةً) [رواه البخاري (٣٤٦١)] !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وحفزنا فيه تحفيزا ربانيا عظيما لتعلم الكتاب والسنة؛ والعمل بهما؛ وتعليمها للناس !!
اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..