التأمل المفيد (٤١٧)

الحلقة الثامنة والتسعون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية”، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: ١٤] !!

بخلاف ما يدعيه الجاهلون -من أرباب الحضارات المادية- أن البشرية في قرونها الغابرة كانت في جهل وظلام دامس -حتى أنهم أطلقوا على الفترة الأولى من التاريخ البشري العصر الحجري، ثم زعموا أيضا أن المجتمعات المادية أخذت في التطور خلال القرون- وأنها الآن تقدمت في كافة العلوم؛ خاصة الفكرية منها، فسنّوا التشريعات والقوانين الباطلة لحياتهم الاجتماعية؛ فما زادتهم إلا خبالا، أقول بخلاف ما يقوله هؤلاء الجاهلون؛ فإن البشرية -منذ أن أنزل الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض؛ وحتى مبعث عيسى عليه السلام- كانت مرحومة بالوحي المطهر؛ يُنزِّله الله تعالى على المرسلين عليهم الصلاة والسلام على مر القرون !!

والآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ}؛ دليل على أن تاريخ البشرية الطويل لم يكن مظلما وغارقا في التيه الفكري -كما زعم الجاهلون-، بل كان كلام الله تعالى ونوره المبين يتعاهد البشرية خلال تاريخها الطويل: لهدايتهم إلى أقوم طريق، في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي) [متفق عليه]؛ فسعُد باتِّباع الرسل فريق المؤمنين؛ وهلك آخرون لتكذيبهم المرسلين، قال تعالى:  {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: ٨٧] !!

ذلك أن الأصل في البشرية الإيمان؛ والكفر طارئ عليها، وآدم عليه السلام كان يعرف استحقاق الله تعالى للعبادة؛ وقد عبد الله تعالى؛ هو وذريته عشرة قرون؛ ثم دب الخلاف في ذريته -بغيا بينهم- فأرسل الله تعالى نوح عليه السلام، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ} [البقرة: ٢١٣]، قال ابن عباس رضي الله عنه: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” [تفسير الطبري (٤/ ٢٧٥)] !!

وإن من المدهش في حكمة الله تعالى البالغة في التشريع للرسل عليهم السلام -قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم- أن شرّع شرائع تناسب زمن كل رسول، فهو سبحانه العليم الخبير بحال خلقه؛ لا يخفى عليه من أمرهم شيء، قال صلى الله عليه وسلم: (الأنبياءُ إخوةٌ لعَلَّاتٍ؛ أمَّهاتُهُم شتَّى ودينُهُم واحدٌ) [رواه البخاري (٣٤٤٣)]، قال الشيخ ابن باز في شرح الحديث: “والمعنى أن دين الأنبياء واحد وهو توحيد الله، والإيمان بأنه رب العالمين، وأنه الخلاق العليم، والإيمان بالآخرة والبعث والنشور والجنة والنار والميزان وغير هذا من أمور الآخرة، أما الشرائع فهي مختلفة، وهذا معنى أولاد لعلات أولاد لضرات؛ كنى بهذا عن الشرائع كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: ٤٨]” [مجموع فتاوى ابن باز (٨/ ٩)] !!

ثم أرسل الله تعالى خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة الكاملة التامة؛ التي ارتضاها سبحانه للناس، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣]، أرسل الله خاتم أنبيائه -عليه الصلاة والسلام- في زمن اختاره وقدّره سبحانه؛ ليُنزِّل فيه آخر كتبه -القرآن الكريم-، فأعلى الله تعالى به كلمة التوحيد؛ وأظهر به الدين؛ وجعل كتابه مُصدِّقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: ٤٨] !!

وقد نسخت شريعة الإسلام جميع الشرائع قبلها، قال الإمام الزركشي: “شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع بالإجماع” [البحر المحيط (٥/ ٢١٣] .. فلا يقبل الله تعالى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أحد شريعة غير شريعته صلى الله عليه وسلم؛ ولا دينا غير الإسلام، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: ٨٥] !!

وكتب الله تعالى للإسلام الانتشار في الأرض بعد بعثة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، قال صلى الله عليه وسلم: (ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللَّهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ  إلَّا أدخَله اللَّهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ به الكُفرَ) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣)]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها) [صححه الألباني في صحيح الجامع (١٨٧٤)]، وهذا من رحمة الله تعالى بالناس !!

كما تهاوت وسقطت في عصرنا الفلسفات المادية الفكرية أمام هدي القرآن الكريم؛ الذي نزل قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام؛ والذي نفى الله عنه الاختلاف والتناقض والأخطاء، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] !!

والشواهد كثيرة على رحمة الله تعالى بإرسال الرسل -عليهم السلام- وإنزال الكتب خلال تاريخ البشرية الطويل،  -ذكرت بعضها في ثنايا المقال- وأقف مع آية كريمة؛ وحديث شريف يدلان على ذلك أيضا:

أولا: القرآن الكريم:

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: ٧٨]، ومثلها من الآيات الكريمات كثير !!

ثانيا: السنة المطهرة:

قال صلى الله عليه وسلم: (صلَّى في مسجد الخيف سبعون نبيًّا) [حسنه الألباني في تحذير الساجد (٩٧)] .. وهو المسجد الموجود في منى !!

في الحديث الشريف دليل على إرسال الله تعالى عددا كبيرا من الأنبياء عليهم السلام خلال تاريخ البشرية الطويل، وليس في الحديث ما يدل على حصر عددهم في السبعين؛ بل هم -عليهم السلام- كُثُر، وعِلم عددهم عند الله تعالى، وما ورد من حديث في تحديد عددهم لا يصح؛ كما قال ذلك الشيخ ابن باز: “لم يثبت في عددهم حديث صحيح”[فتاوى نور على الدرب (١/ ٧٩)] !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه رحمة الله تعالى بالبشرية خلال تاريخها الطويل؛ بإرسال الرسل؛ وإنزال الكتب؛ ثم ختم الرسالات برسالة خاتم الأنبياء؛ وسيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم !!

اللهم كن للمستضعفين في غزة ناصرا ومؤيدا ومعينا .. اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..

نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..

 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..

انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..

وللا طلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..