الحلقة التاسعة والسبعون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: ٢٩]، قال أهل التفسير: “إن الذين يقرؤون القرآن، ويعملون به، وداوموا على الصلاة في أوقاتها، وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا، هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه؛ ليوفيهم الله تعالى ثواب أعمغماعنلنالهم كاملا غير منقوص، ويضاعف لهم الحسنات من فضله، إن الله غفور لسيئاتهم، شكور لحسناتهم، يثيبهم عليها الجزيل من الثواب” !!*
الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال- تطمئن كل مسلم؛ ضاقت به الدنيا من النواحي المادية؛ أو غيرها من الضائقات؛ ألا يضجر ولا يتكدر ما دامت تجارته مع الله تعالى قائمة .. إذ لا يمكن لأحد المساس بها أو إضعافها؛ إلا بسبب من الإنسان نفسه؛ وتخذيل من الشيطان !!
وعند الحديث عن التجارة مع الله تعالى؛ فإن الموضوع ينقسم إلى قسمين رئيسين مهمين:
القسم الأول: الحديث عن الركن الأساس لأي تجارة نتاجر بها مع الله تعالى وهو الإخلاص: بطلب رضاه سبحانه؛ والطمع في الفوز بجزيل ثوابه !!
القسم الثاني: مجالات التجارة مع الله تعالى: سواء كان ذلك ما جاء في الآية الكريمة من قراءة القرآن؛ أو إقامة الصلاة؛ أو النفقة؛ أو غير ذلك من أعمال البر الكثيرة والمتنوعة !!
وحيث أن الإخلاص ليس له دور أساس فقط في قبول الأعمال؛ بل كذلك له دور كبير في كثرة الأعمال الصالحة التي يقدمها المسلم وتنوعها -كما سيأتي بيانه-؛ فقد اخترت الحديث عنه في هذا المقال !!
والسؤال الذي يطرح نفسه:
ما هو الإخلاص الصحيح الذي يحصل به القبول؛ وكذلك يدفع إلى زيادة في نوعية وكثرة الأعمال الصالحة التي نتاجر بها مع الله تعالى ؟
الجواب:
الإخلاص الصحيح أساس نشأته العقيدة الصحيحة -من الإيمان بالله العظيم؛ وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ ومنها أنه سبحانه سميع، بصير، رقيب، شهيد-، وهو -أي الإخلاص- قصد وجه الله تعالى عند كل عمل !!
هذا المفهوم الصحيح للإخلاص -قصد وجه الله تعالى عند كل عمل؛ وأعيد للتأكيد: عند كل عمل- كان بمثابة الوقود الذي فجّر في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم طاقة لا مثيل لها؛ أحالت خواطرهم إلى أعمال كبيرة؛ وأقوالهم إلى أفعال عظيمة !!
ولا أدل على ارتباط قوة الإخلاص بكثرة الأعمال الصالحة؛ من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كان أعلم الناس بأهمية البذل والعطاء؛ حتى يُمكَّن لهذا الدين في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ..) الحديث [رواه البخاري ومسلم] !!
هذا الحديث الشريف دليل واضح على أن الإخلاص نيات صالحات مع مختلف الأعمال، لا أن الإخلاص يحصل في عبادة واحدة؛ أو عمل واحد فقط؛ ثم يبقى مع صاحبه لا ينفك عنه أبدا؛ ولا حاجة لتكراره .. كلا ! الإخلاص يجب ممارسته دائما مع كافة الأعمال، ولذلك قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) !! [جامع العلوم والحكم 2/192] !!
صحيح أنه قد تكون هناك نوايا طيبة للإنسان بدون عمل -وهذا أمر طيب ويُجازَى الإنسان عليه- ولكن هذا ليس موضوع حديثي .. موضوع المقال يتعلق بالأمر الذي ينهض بأمة الإسلام، وهو ارتباط أداء الأعمال الصالحة الكبيرة والكثيرة بالإخلاص !!
وفي حديث آخر يؤكد صلى الله عليه وسلم على العلاقة بين القلوب والأعمال؛ والارتباط الوثيق بينهما، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [رواه مسلم (33)] !!
والمدهش في كتاب ربنا تعالى؛ أن ضرب لنا مثلا عظيما يُعبِّر عن ارتباط الأعمال الصالحة وكثرتها بعمق الإيمان والإخلاص في القلوب، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ • تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم: ٢٤-٢٥]، إذ كلما رأى المؤمن شجرة باسقة مثمرة؛ أيقن أن لها جذورا ضاربة في أعماق الأرض .. وكذلك يدرك المسلم أن رسوخ كلمة التوحيد في القلوب؛ وقوة الإخلاص لله تعالى؛ تثمر الثمار اليانعة؛ من الأعمال الصالحة الكبيرة والكثيرة !!
وإذا ما علِم المسلم أن الأعمال الكبيرة والكثيرة المطلوبة لخدمة هذا الدين ونصرته يترتب عليها الأجر العظيم؛ والمنزلة الأعلى والأرفع في الآخرة؛ عندها سيختار العاقل طريق الإخلاص وإصلاح النيات لئلا يضيع هذا الأجر العظيم برياء أو سمعة، وسيراقب الله في جميع أعماله، وسيصبح متمرساً في اختيار وتنويع الطاعات -وخاصة ذوات الأجر الكبير- مصاحبا لكل عمل نية صالحة، راجيا أن يكون من الْمُخْلَصِينَ !!
ومن العجيب أن الكثير من عوام المسلمين -فضلا عن مثقفيهم- يفهمون بداهة عند الحديث عن الطب أو الهندسة مثلا: ارتباط الإخلاص بالإنجاز وجودة العمل، فإذا ما تناقل الناس إخلاص ذلك الطبيب؛ أو المهندس؛ صُرِف هذا الإخلاص إلى إنتاجهما المميز؛ وإبداعهما العظيم؛ وتفانيهما في العمل؛ وليس لنيتهما الحسنة فقط .. غير أن هذا الفهم السليم للإخلاص يختلف كثيرا إذا كان الحديث عن المسلم المخلص -المكلف من الله تعالى بالدعوة إلى سبيله-، إذ يصرِف الكثير كلمتي: “المسلم المخلص” إلى أنه إنسان طيب؛ محب للخير؛ إلى غير ذلك من الأوصاف .. أمّا أوقاته كيف يستثمرها؛ ومواهبه وقدراته كيف يوجهها ويوظفها؛ وهل هو مقبل على تعلم أمور دينه؛ وهل هو مهتم بالدعوة إلى الله تعالى ؟! فهذه معايير لا علاقة لها بالإخلاص عند الكثير؛ وهذا مكمن الخطأ .. وصدق عمر رضي الله عنه الذي كان يدرك أهمية العمل حين قال: “إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم”[رواه البخاري] !!
فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ وبين لنا فيه أهمية ارتباط الأعمال الصالحة بالنيات الصالحة !!
اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..