التأمل المفيد (٣٨٣)

الحلقة الرابعة والستون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: ٣٩] !!

لم تتحدث الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال- عن ضرورة توجه السارق إلى أحد من البشر؛ ليعالج له نفسيته المثقلة بالذنب -إذ كان الحديث عن السرقة في الآية التي قبلها-، إنما تحدثت الآية الكريمة عن خالق البشر سبحانه؛ ليتولى علاج نفسية المخطئ؛ حتى لو كان قد سرق، قال تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} !!

نعم .. الخلق خلق الله تعالى، وهم في أرضه، وإذا اقترفوا خطأ فإنما هو عصيان له سبحانه قبل أي شيء آخر، وهو وحده المستحق لوصف العلاج للمتعثرين المخطئين دون غيره، ولا يجوز للبشر أن يخوضوا في ذلك بمعزل عن توجيهات الشارع الحكيم، فهو أعلم بضعف الإنسان، وهو أرأف وأرحم به من أمه وأبيه، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨] !!

ما سبق بيانه إنما هو مدخل إلى المقال الذي أطمح أن أعرض من خلاله: الفرق الشاسع والكبير بين تعامل خالق البشر مع زلات وأخطاء المخلوقين؛ وبين خوض أرباب الحضارات المادية -التجارب تلو التجارب- لإيجاد سياسة ناجحة للتعامل مع أصحاب الجُنح والأخطاء، وهي بلا شك محاولات قاصرة لجلب الأمن لمجتمعاتهم؛ ما ازدادوا بها إلا انحطاطا في القيم والأخلاق؛ وتفشيا للجريمة؛ والعجز الكامل عن كبحها وإيجاد الحلول لها، وفيما يلي بيان لسببين جوهريين لفشل هذه المحاولات، فأقول وبالله التوفيق:

إن التفريط الذي تبنته مجتمعات الحضارة المادية -بالانحلال والتبرج والسفور في مؤسسات التعليم؛ وأماكن العمل؛ وغيرها من الأماكن المختلطة- وما نتج عن ذلك كله من جرائم بشعة ومميتة؛ أقول إن ذلك دفع بعض دول الحضارة المادية إلى تبني سياسة متشددة شعارها: (Zero Tolerance Policy) (سياسة عدم التسامح مطلقا)؛ مع أي مخالف للتعليمات المنصوص عليها في المؤسسة؛ بطرده وفصله .. وهذه السياسة تذكرني بجزئية من بدع الخوارج؛ الذين يرون ضرورة عدم وقوع الإنسان في الكبائر، وهو أمر مخالف للطبيعة البشرية، إذ الإنسان معرض للوقوع في الخطأ، قال صلى الله عليه وسلم: (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابون) [حسنه الألباني في صحيح الترمذي (٢٤٩٩)] !!

ويبدو أن بدعتي الغلو والتفريط؛ قد التقتا واجتمعتا معا في ثقافة الحضارة المادية المعاصرة .. غلو بتبني سياسة عدم التسامح إطلاقا مع الأخطاء -أي افتراض ألا يخطأ الإنسان- وتفريط بالانحلال والتبرج والسفور والحرية البهيمية .. أقول إن هذا التزاوج الخطير -بين بدعتي الغلو والتفريط- أفرز ألوانا من الإجرام والآثام التي لم توجد خلال تاريخ البشرية الطويل .. مع ظنهم أنهم أوجدوا الحلول لمشاكلهم الأمنية المتفاقمة؛ وأنهم يحسنون صنعا !!

لقد كان لطرد الطلبة المخالفين للتعليمات من مدارسهم؛ أو تعليق دراستهم لمدة طويلة -بسبب تبني سياسة عدم التسامح مطلقا- آثار سلبية خطيرة على المجتمع، إذ أحال هذا العقاب الصارم الكثير منهم إلى مجرمين عتاة؛ حين انقطعوا عن التعليم !!

وبالرغم من انتقاد بعض المفكرين الغربيين لسياسة عدم التسامح مطلقا مع أخطاء الأفراد؛ إلا أنها لا تزال تُطبق في بعض المؤسسات التعليمية وغيرها .. لقد جهل حتى مفكروهم أن الذي سيوقف تيار الجريمة الجارف هو الاستسلام لله رب العالمين !!

وقد انتهج الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب -في أبريل عام ٢٠١٨ من الميلاد-سياسة عدم التسامح مطلقا؛ مع المهاجرين النازحين إلى أمريكا؛ نتج عن ذلك فصل الأطفال عن ذويهم، المصدر: (FAMILIES DIVIDED) !!

يمكن قراءة المزيد عن سياسة عدم التسامح مطلقا؛ بكتابة: (Zero Tolerance Policy)؛ في محرك البحث قوقل !!

أمّا الإسلام -دين السماحة؛ المحفوظ إلى آخر الزمان- فقد توسط في التعامل مع أهل الكبائر برفض ونقض كلا البدعتين -الغلو والتفريط-، فشرع للمجتمع المسلم تشريعات الفضيلة والستر؛ والبعد كل البعد عمّا يخدش الحياء؛ سواء في الملبس أو حتى الكلام .. كما بين الكبائر والصغائر من الذنوب .. وأقر بوقوع المسلم فيها .. وبين الحدود والقصاص والتعزير؛ ومجالات كل منها .. وفتح باب التوبة للمسلم على مصراعيه من جميع الذنوب -كبيرها وصغيرها- ما لم تغرغر روحه، وما لم تطلع الشمس من مغربها !!

وقد زخِر كتاب الله تعالى؛ والسنة المطهرة؛ بالحديث عن واسع رحمة الله تعالى؛ وعظيم عفوه، من ذلك:

مدْح الله تعالى؛ وثوابه العظيم لمرتكبي الذنوب -حتى لو كانت من الكبائر- الذين إذا وقعوا فيها ذكروا الله تعالى واستغفروه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ • أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران : ١٣٥-١٣٦] !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ الذي رسم للبشرية المنهج الأمثل؛ لمواجهة أخطاء الناس؛ سواء الصغيرة منها؛ أو الكبيرة !!

اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..