التأمل المفيد (٣٧٢)

الحلقة الثالثة والخمسون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: ٨٧] .. هكذا فعلت العاطفة الدينية -التي لم تنضبط بالعلم الشرعي- ببعض أصحاب موسى عليه السلام، وذلك حين شعروا بالذنب لخروجهم قبل أن يردّوا الحلي المستعارة لأصحابها، فاستجابوا للسامري -داعية الضلالة آنذاك- ورموا بحليهم في الحفرة الملتهبة نارا، تماما كما فعل وألقى السامري؛ وصنع لهم بها عجلا؛ بعد ذوبان الحلي في النار؛ ثم عبدوه !!

إن العاطفة الدينية سلاح ذو حدين: فهي إما أن تكون محمودة ومطلوبة إذا كانت منضبطة بالعلم الشرعي، قال تعالى: {يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: ١٢]، قال أهل التفسير: في معنى قوله تعالى: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} “أي يا يحيى خذ التوراة بجد واجتهاد” .. والجد والاجتهاد من يحيى عليه السلام؛ يعكسان عاطفة قوية جياشة تجاه الأخذ بالتوراة !!

وفي المقابل: فإن العاطفة الدينية التي لا يضبطها العلم الشرعي؛ حتما ستأتي بالعجائب والغرائب من الضلالات والأباطيل .. ونظرة سريعة إلى ما أحدثه النصارى في دينهم -نتاج عاطفتهم الدينية المفعمة بالأحزان؛ بسبب قصة صلب المسيح المزعومة- من شرك بالله تعالى؛ وإطلاق اسم: “المذبح” على الطاولة الكبيرة التي يقف أمامها الكاهن في صلاتهم في الكنيسة؛ واحتفالهم بأسبوع أسموه أسبوع الآلام .. أقول: كل ما سبق ذكره دليل على خطر العاطفة الدينية التي لا يضبطها العلم الشرعي !!

وكذلك في الأمة المسلمة: لم يضل أصحاب البدع المغلظة -ممن ينتمون إلى قبلتنا- إلا حينما دفعتهم عاطفتهم الدينية -التي لم تنضبط بالعلم الشرعي- إلى الإتيان بالعجائب والغرائب .. وكلنا يعرف هذه البدع والضلالات -وسمع بها؛ وبالردود عليها- ولن أصرف هنا وقتا لعرضها !!

غير أن الذي يهمني في هذا المقال هو الوقوف وقفتين فقط؛ مع موضوعين من الموضوعات الإسلامية؛ وما تقود إليه العاطفة الدينية تجاههما من أخطاء -لنا نحن أهل السنة والجماعة- إذا لم تنضبط تلك العاطفة بالعلم الشرعي، من ذلك:

الوقفة الأولى: حفظ القرآن الكريم:

قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: ٤٩] !!

لا أبالغ إن قلت إن كل مسلم صادق لدية عاطفة دينية جياشة تجاه حفظ القرآن الكريم -وهذا أمر مطلوب ومحمود- لكن البعض لا يخلص النية لله تعالى في حفظه للقرآن؛ وإنما يحفظه لأجل الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثرُ مُنافقي أُمَّتي قُرَّاؤها) [صححه الألباني في صحيح الجامع (١٢٠٣)]، قال المناوي في شرح الحديث: “أي الذين يتأولونه على غير وجهه؛ ويضعونه في غير مواضعه؛ أو يحفظون القرآن تقية للتهمة عن أنفسهم وهم معتقدون خلافه؛ فكان المنافقون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة”[فيض القدير (٨٠/٢)]، والبعض يحفظ حروفه ويضيع حدوده، قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، تُحفظ فيه حروف القرآن؛ وتُضيع حدوده”[حسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (605)] !!

ولذلك فإن من العلم الذي يحتاجه من هذه حالهم؛ حتى تنصب عاطفتهم الدينية -تجاه حفظهم للقرآن الكريم- في الاتجاه الصحيح؛ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أولُ الناسِ يُقضى فيه يومَ القيامةِ ..) إلى أن قال: (ورجلٌ تعلَّمَ العِلمَ والقرآنَ، فأتى به اللهُ فعرَّفَه نِعَمَه فعرَفَها، فقال: ما عملتَ فيها ؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وقرأتُ القرآنَ، وعلَّمتُه فيك، فقال: كذبتَ إنما أردتَ أن يقال: فلانٌ عالمٌ وفلانٌ قارئٌ فأمر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ )[رواه مسلم (١٩٠٥)] !!

الوقفة الثانية: تعظيم البلد الحرام:

قال تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: ٣٠] !!

لدى عموم المسلمين عاطفة دينية جياشة تجاه تعظيم البلد الحرام -وهذا أمر مطلوب ومحمود- غير أن هذا التعظيم عند البعض ينحصر داخل المسجد الحرام؛ وما حواه من آيات بينات، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: ٩٧]، ثم تنطفئ شعلة هذا التعظيم إذا ما غادر هذا البعض ساحات المسجد الحرام -مع كونه لا يزال داخل حدود الحرم-، فتراه يضعف عن الإقبال على الطاعات؛ ولا يكترث إن وقع في الذنوب !!

ولذا فإن من العلم الذي يحتاجه من هذه حالهم -حتى تنصب عاطفتهم الدينية تجاه البلد الحرام نحو التعظيم الشرعي الأكمل- أن يدركوا أن مكة المكرمة بحدودها التي وضعها إبراهيم عليه السلام: “كلها حرم” .. إذ إن أعلام الحرم هي ليست تلك الخمسة المعروفة للناس على مداخل مكة المكرمة فقط .. الأعلام عددها (١١٠٤) حسب ما رصدته لجنة حدود الحرم -وهي موضوعة على حدود الحرم، وتلك الحدود توقيفية؛ من الله تعالى- لتبلغ مساحة الحرم داخل هذه الأعلام (٥٥٦) كم مربع .. هذه المساحة الكبيرة: “كلها حرم” .. يضاعف فيها أجر الصلاة إلى مائة ألف صلاة، كما أن الذنوب في أي بقعة فيها تُغلظ؛ لدرجة أن الله تعالى توعد مرتكب الذنوب في البلد الحرام بعذاب أليم، قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: ٢٥] !!

فالحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام -دين الحنيفية السمحة-؛ الذي أبان لنا الله تعالى فيه أهمية أن تكون العاطفة الدينية؛ منضبطة بالعلم الشرعي !!

اللهم حرر المسجد الأقصى؛ واحفظ المسلمين في فلسطين؛ وانصرهم على عدوك وعدوهم !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) ..
وللاطلاع على جميع المقالات اكتب في قوقل: مدونة فؤاد قاضي ..