التأمل المفيد (٣٤٠)

الحلقة السادسة والعشرون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: ١٠] !!

يا لله .. أي رقي في التعامل بين أفراد الأمة المسلمة تحمله هذه الآية الكريمة؛ التي هي موضع التأمل في هذا المقال ؟!!

وبادئ ذي بدء أقول: إن الذي دعاني لكتابة هذا المقال: هو ما يقع هذه الأيام -من انقسام حاد بين الملايين من أبناء الشعب الأمريكي -وأمريكا هي زعيمة الحضارة المادية في هذا العصر-؛ نتيجة التوجهات السياسية الحزبية .. وهو انقسام  بين أكثر من أربعة وسبعين مليونا -وهو عدد من صوّت للرئيس السابق ترمب-، انقسموا وخالفوا أكثر من واحد وثمانين مليونا صوّتوا للرئيس الحالي بايدن .. وقد عكست وسائل إعلامهم هذه الأيام -بمختلف اتجاهاتها الحزبية- عكست لنا هذا الانقسام، حيث غصت بأخبار التنابز؛ والسخرية؛ والفضائح؛ والاتهام بالكذب؛ بين الحزبين الرئيسيين !!

وليس بعيدا عنا ما حصل في عام ٢٠٢١ من الميلاد من إفرازات هذا الانقسام الحزبي، حيث اقتحمت جموع كبيرة من مؤيدي الرئيس ترمب مبنى الكونجرس؛ ونادى بعض المقتحمين بشنق نائب الرئيس الأمريكي ترمب: مايك بنس؛ متهمين إياه بالخور والجبن حين رفض المشاركة في قلب نتائج انتخابات عام ٢٠٢٠ .. كما جر هذا الانقسام إلى محاكمات للساسة هناك؛ وعلى رأسهم الرئيس السابق ترمب  !!

إن هذا الانقسام ليدعو المسلم إلى اغتنام الفرصة لإبراز عظمة دين الإسلام؛ وسماحته؛ حين دعا الفرد المسلم إلى عدم حمل أي ضغينة ضد أي فرد من المؤمنين -{وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: ١٠]- بل وزاد فدعا المؤمن أن يستغفر للأموات من المؤمنين؛ الذين سبقوه بالإيمان، قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَان} [الحشر: ١٠] !!

والسؤال الذي يطرح نفسه:
متى كانت بداية تاريخ هذا الانقسام في أمريكا ؟

الجواب:
بدلا من الاستسلام لرب العالمين؛ والانقياد لشرعه القويم؛ ارتضت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الانقسام بين شعبها منذ لحظة قيامها كدولة؛ بتبني الديموقراطية منهجا لها؛ ورضوا -بقناعة وتسليم تامين- بالانقسام إلى أحزاب متضادة؛ في الفكر والعمل؛ ظانين أن دستورهم سيضمن لهم -على الدوام-  انقساما سلميا بين الأحزاب المتضادة .. ثم جاءت أحداث المحاكمات للساسة هذه الأيام؛ لتؤكد تطور الانقسام -مع مرور السنون- إلى كراهية بين الحزبين الحاكمين .. وقبل عقود كادت فضائح قضية “ووتر غيت” تودي بالرئيس السابق نيكسون إلى السجن؛ لولا استقالته .. هذه الكراهية هي إفرازات صناديق الاقتراع؛ التي أصمّوا آذان الناس بها .. والتصويت لا يكون إلا بين الأحزاب المتضادة؛ في فكرها وبرنامج عملها !!

وقد حدث هذا الأسبوع -أثناء كتابتي للمقال- أن طلب رئيس مجلس النواب الأمريكي -الجمهوري- كيفن مكارثي فتح تحقيق رسمي لعزل الرئيس الحالي بايدن، وهذا دليل على حدة الانقسام بين الحزبين !!

أمّا الإسلام -دين الحنيفية السمحة- فقد سد باب التفرق بين أتباعه بإقرار توحيد الله تعالى؛ ومن ثم استسلام المؤمنين جميعهم له سبحانه؛ والانقياد لشرعه الحكيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: ١٥٣] !!

وبعد أن أدرك المؤمنون أنهم جميعا عباد لله تعالى؛ منقادين لنهجه القويم؛ تتابع نزول الوحي المطهر؛ والسنة الشريفة بالحض على الولاء للمؤمنين؛ وحبهم؛ وخلو القلوب من الضغينة عليهم، من ذلك الآية التي وفق الله تعالى في اختيارها للتأمل في هذا المقال !!

كذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: ٧١] !!

وقال صلى الله عليه وسلم؛ حاضا على التمسك بالجماعة: (من أرادَ بَحبوحةَ الجنَّةِ فعليهِ بالجماعةِ، فإنَّ الشَّيطانَ معَ الفذِّ) [صححه الألباني في مشكاة المصابيح (٥٩٥٧)]!!

ثم يأتي -للأسف الشديد- أنصاف المثقفين من أبناء المسلمين ممن أُشرِبوا حُب الديموقراطية -بقصد أو بغير قصد- ليمدحوا منهجا يشرّع للناس -حسب شهواتهم ورغباتهم- العلاقات الحرام؛ وشرب الخمور؛ والتبرج والسفور؛ وغير ذلك من أمور الباطل والضلال .. ثم يزيد هؤلاء المنبهرون قائلين: انظر إليهم يحاكمون رئيسا سابقا؛ حيث لا أحد عندهم فوق القانون .. لكن الحقيقة أن هؤلاء المنبهرين هم أجهل الناس بالفوضى الفكرية العارمة؛ وإفرازاتها السلبية الفادحة التي تعيشها الدول الديمقراطية؛ التي تمردت على توحيد رب العالمين؛ في العبادة والعمل !!

إن هذه القمة السامقة من التعامل الراقي بين المسلمين -التي أشارت إليها النصوص الشرعية-  لن تصل إليها شعوب الحضارة المادية إلا بعد أن تنبذ الديمقراطية وتستسلم لربها العظيم؛ وتوحده؛ وتتبع نهجه القويم .. فحب الآخرين؛ وعدم حمل الغل في القلوب عليهم؛ والاستغفار للموتى منهم؛ لا يتأتى بدورات تدريبية تُعقد عن مهارات التواصل، إنما هو تعامل يُبنى على إيمان بالله تعالى العظيم؛ رجاء ما عنده سبحانه من أجر وثواب !!

اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
 كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!