الحلقة العشرون من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: ١٨] !!
ممّا دعاني للكتابة عن سماحة الإسلام حول المنهج الذي ينبغي أن ينهجه المؤمنون في السماع أو الحديث -سواء كان ذلك في مجالسهم في بيوتهم؛ أو في أماكن عملهم؛ أو في تجمعاتهم- ممّا دعاني لذلك هو معاصرة المسلمين في زماننا لحضارة مادية؛ تبنت الجدال بغير الحق منذ أكثر من ستة عشر قرنا؛ وهي مستمرة عليه -كما سيأتي بيانه-، وممّا زاد الطين بِلة؛ هذا التوسع غير المسبوق في وسائل التواصل الاجتماعي؛ حتى غدا العالم أشبه بقرية صغيرة؛ يسمع ويرى بعضهم منطق حديث البعض الآخر !!
لقد وجه الإسلام المؤمنين بأن يكون منطقهم في السماع والحديث؛ اتباع أرشد القول وأحسنه، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، قال أهل التفسير: “وأحسن الكلام وأرشده كلام الله ثم كلام رسوله” !!
كما بغّض إليهم رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أمورا ثلاثة؛ وحبب إليهم مثلها في العدد، وجميع هذه الأمور الست لها دور كبير في توجيه سماع المؤمنين وأحاديثهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وكَثْرَةَ السُّؤَالِ) [متفق عليه]، وقال: (أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه) [حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٢٦٤٨)]، وإذا كان يستحب للمؤمن الصادق أن يترك الجدال وهو محق؛ فإنه يكون من باب أولى أبعد عن الجدال بالباطل !!
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي أودى بالحضارة المادية حتى أصبح الجدال بغير الحق صفة راسخة في أدبياتهم؛ ومنطق سماعهم وحديثهم ؟
الجواب: السبب الأعظم هو ضلالهم بعد الهدى، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ) [حسنه الألباني في صحيح الجامع (٥٦٣٣)] !!
وقد كانت بداية ضلالهم من بعد الهدى الذي جاء به عيسى عليه السلام؛ وتبنيهم منطق الجدل بغير الحق -الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم- كانت بداية ذلك اجتماع عُقِد في نيقية -مدينة إغريقية قديمة عام ٣٢٥ من ميلاد المسيح عيسى عليه السلام- ضم أحزابا مسيحية متفرقة؛ يجادلون في أمر عيسى عليه السلام .. منها أحزاب تجادل باطلا بأن عيسى ابن الله .. وأخرى تجادل باطلا بأن عيسى هو الله .. تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا .. وحزب على الحق يقر أن عيسى عبدالله ورسوله، قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: ٦٥] !!
خرجت الأحزاب المسيحية -الظالمة كما نعتها القرآن- من ذلك الاجتماع -بتأييد من الملك قسطنطين- خرجت بضلال بعيد؛ ألصق بها صفة الجدال بغير الحق إلى قيام الساعة !!
وقد أوتوا الجدل بداية في جميع الأمور -الاعتقاد والعبادات والتعاملات- ثم أخرجوا عقب الثورة الفرنسية موضوعي الاعتقاد والعبادات؛ وجعلوهما حرية شخصية .. وأبقوا جدالهم بالباطل في التعاملات؛ التي تشغل معظم أوقات الناس !!
وحتى يجمّلوا ويزينوا باطل الجدال بغير الحق؛ جاءوا بالديمقراطية المقيتة؛ لتفرز لهم أحزابا متضادة؛ يجادل كل حزب بالباطل فيما يمس خُلُق الإنسان وقيمه .. وأنبه القارئ الكريم إلى أنه لا يعنيني في هذا المقال الحديث عن جدالهم فيما بينهم ليصلوا إلى الأفضل في أمور تسهيل سُبُل معيشة الناس -من صناعة وزراعة وغيرها- فهذا جدال محمود ومطلوب !!
ولا يظن ظان أن الجدال بالباطل -في أمريكا على سبيل المثال- مقتصر على الأحزاب المتضادة في مجلسي الشيوخ والنواب في واشنطن العاصمة فقط .. كلا .. فإن كل ولاية من الولايات الخمسين لها مجلسا شيوخ ونواب؛ يجادلون بالباطل كثيرا من القضايا التي تمس خُلُق الإنسان وقيمه؛ كقضايا الإجهاض؛ والمثلية وغيرها .. وفي هذه الأيام يشتد الجدال بالباطل في كثير من الولايات حول حقوق الوالدين (Parental Rights) في تربية الأبناء؛ بسبب ما تعرضه المدارس لديهم على الطلبة والطالبات من مواد جنسية مخزية .. يجادلون بالباطل حول حق الوالدين على الأبناء؛ الذي ضلوا عنه بسبب تمردهم على الله تعالى وشرعه القويم !!
ومن أغرب وسائل الجدال بالباطل هي تلك التي يسميها الساسة في أمريكا بالتعطيل (Filibuster)؛ وفيها تعمد الأقلية الحاكمة من الحزبين بتعطيل التصويت على قرار ما؛ حيث يقوم أحد أعضاء الأقلية بالجدال والحديث لساعات طويلة بدون توقف؛ بغية استمالة بعض الأصوات .. وكان أطول جدال حصل في تاريخ أمريكا على الإطلاق؛ حين قام السناتور (Strom Thurmond) من ولاية (South Carolina) في العام ١٩٥٧ من الميلاد؛ متكلما ومجادلا في مجلس الشيوخ بدون توقف لمدة زادت عن (٢٤ أربعة وعشرين ساعة) .. وحديثا في عام ٢٠١٣ قام السناتور الحالي (Ted Cruz) من ولاية (Texas) بالحديث والجدال لمدة زادت عن (٢١ ساعة) بدون توقف !!
والحقيقة أن الجدال بالباطل هو ديدن الكفار على اختلاف مللهم .. فهذه قريش وصمها الله به، قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ • وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: ٥٧-٥٨] !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!