الحلقة السابعة عشرة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: ١٠١] !!
الآية الكريمة تكشف عن جانب من جوانب العظمة والسماحة في شريعة رب العالمين، حيث أدرك الصحابة -رضوان الله عليهم- منها: أن ما يختاره الله تعالى؛ ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لهم من أحكام؛ فيها الكفاية والكمال، وأنه لا حاجة للسؤال عن أشياء لم يؤمروا بها، بل قال صلى الله عليه وسلم: (أعظمُ المسلمينَ في المسلمينَ جُرمًا من سألَ عمّا لم يُحرَّم فحُرِّمَ على الناسِ من أجلِ مسألتِهِ) [رواه مسلم (٢٣٥٨)] !!
مقابل هذه السماحة في ديننا؛ وهذه العظمة لشريعة ربنا؛ التي أحكمها سبحانه بما يحتاجه البشر من أحكام -قبل ألف وأربعمائة عام- ولا تحتاج بعد عهد التنزيل إلى زيادة أو نقصان؛ مقابل هذه السماحة؛ أقف متعجبا من سفه الحضارات المادية في باب سن القوانين والتشريعات، خاصة استمرارهم في التشريع -إلى يومنا هذا- فيما يمس حياة الإنسان وأخلاقه وقيمه -كما سأبين ذلك في هذا المقال- وفداحة الكوارث والانحطاط الذي لحق بها من جراء ذلك !!
بداية .. ليس هناك أصدق ولا أعظم ولا أوجز من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لشريعة أحكم الحاكمين؛ حيث قال: (إنَّ اللَّهَ فرضَ فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحرَّمَ حرماتٍ فلا تنتَهِكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتَدوها، وسَكَتَ عن أشياءَ من غيرِ نسيانٍ ؛ فلا تبحَثوا عنها) [صححه الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (٢٢١/١)] .. قال أبو بكر ابن السمعاني رحمه الله: “من عمل بهذا الحديث، فقد حاز الثواب، وأمِن من العقاب؛ لأن من أدى الفرائض واجتنب المحارم ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين؛ لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث”، وقال أيضًا: “هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه”[جامع العلوم والحكم (١٥٣/٢)] !!
أربعة محاور تناولها الحديث الشريف؛ عن شريعة الله تعالى .. كان ينبغي للبشرية جمعاء أن يفقهوها؛ ويعملوا بمقتضاها:
محور الفرائض .. كالصلاة والزكاة وغيرها من الفرائض !!
محور المحارم (المحرمات) !!
محور الحدود .. كحد السرقة؛ وحد الزنا؛ وغيرها من حدود الله تعالى !!
محور المسكوت عنه؛ وهو ما نهينا أن نسأل عنه !!
وهذا المحور الأخير يعد معلما بارزا في شريعة الله تعالى الحكيمة، حيث يَنعم المؤمنون بتشريعات ربهم المحكمة -التي اكتملت إبان فترة التنزيل- ولن يجرؤ أحد بعد ذلك على أن يزيد فيها أو ينقص منها !!
أمّا الحضارة المادية؛ فقد افتقدت محور المسكوت عنه -جراء إضاعتها لفرائض الله تعالى؛ وانتهاكها لحرماته؛ وعدم الوقوف عند حدوده- مما دعاهم إلى الاستمرار في التشريع فيما يمس حياة الإنسان من أخلاق وقيم؛ فتخبطوا تخبطا كبيرا .. ولبيان ذلك أقول:
إن من أعظم ما أصاب المجتمعات المادية في باب التشريع وسن القوانين -بعد تمردهم على الله تعالى وشرعه- هو تبنيهم للديموقراطية؛ التي قسمتهم إلى أحزاب؛ يتنافس كل حزب على سن القوانين التي تتماشى مع أيدولوجية حزبه -حال انتخابه؛ وتشكيله للأغلبية الحاكمة- إذ قوانينهم ليست من شريعة الله تعالى المحكمة؛ التي لا تحتاج إلى زيادة أو نقصان .. قوانينهم جاءت من البشر، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: ٢١]؛ التي سرعان ما يظهر عوارها ونقصها وعدم ملائمتها لفطرة الإنسان .. وفيما يلي مثال واحد؛ فيه بيان لتقلبهم من التشريع إلى نقيضه؛ فيما يمس حياة الإنسان وأخلاقه وقيمه:
“تشريعات الحضارة المادية فيما يخص الخمر”:
أدرك المشرِّعون في أمريكا -قبل أكثر من قرن- أضرار الخمر على الفرد والمجتمع؛ فشرّعوا في عام (١٩٢٠ من الميلاد) قانونا فيدراليا بحظره .. لكن مجتمعهم -الذي لم يكن يقيم فرائض الله تعالى؛ وانتهك حرماته؛ ولم يقف عند حدوده- هذا المجتمع لم يستجب لتشريع حظر الخمر .. بل كان هذا التشريع سببا رئيسيا في نمو العديد من المنظمات الإجرامية؛ ونشوء السوق السوداء، وظهر في فترة الحظر أحد أشهر رجال العصابات الأمريكيين المدعو “آل كابوني” .. ثم ما لبث أن عاد المشرِّعون -بعد ثلاثة عشرة سنة- ينقضون تشريعهم في عام (١٩٣٣ من الميلاد) [ويكيبيديا] !!
وفي المقابل: حينما حرّم الله تعالى الخمر؛ بعد التدرج الذي نهجه القرآن في التنفير منه؛ وبعد أن صاروا يؤدون الفرائض -ومنها الصلاة؛ خمس مرات في اليوم والليلة؛ حيث لابد من اجتناب الخمر عند الصلاة؛ ليعقل المسلم ما يقول- حين نزل تحريم الخمر بعد ذلك؛ سكب من كان لديه خمر؛ خمره في الطريق؛ امتثالا لأمر الله تعالى .. فقد كانت رقابة الله تعالى حاضرة في قلوبهم .. ثم بعد التحريم ازدادوا صلاحا .. كما بقي الخمر محرما؛ منذ ألف وأربعمائة عام؛ وإلى قيام الساعة؛ لا يجوز لكائن من كان أن ينقضه !!
وكراهة في الإطالة؛ فقد اكتفيت بضرب مثال واحد فقط -تشريعات تخص الخمر- ليعكس تقلب الحضارة المادية من التشريع إلى نقيضه؛ فيما يمس حياة الإنسان وأخلاقه وقيمه .. لكن الأدهى والأمر أن هذه التشريعات البشرية المتناقضة لا زالت مستمرة؛ وتغطي كافة جوانب حياة الإنسان لديهم؛ الاجتماعية؛ والثقافية؛ والسياسية؛ وغيرها !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!