الحلقة الرابعة عشرة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” !!
قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: ٣٩]، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
إن من أعظم مظاهر السماحة في دين الإسلام: هو أن أحكامه كلها حكيمة، إذ هي وحي مطهر من لدن الحكيم سبحانه: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} .. وقد أخرجت شريعة الله تعالى الحكيمة العرب من الظلمات إلى النور؛ حتى تبؤوا مكان السيادة والريادة؛ بين أمم الأرض آنذاك .. واستمرت هذه الشريعة الربانية -على مر القرون- تثبت صلاحيتها للارتقاء بالمجتمعات نحو الخيرية؛ على مختلف أجناسها؛ وبيئاتها !!
وبسبب تطاول إعلام الحضارة المادية المعاصرة على دين الإسلام؛ والادعاء -زورا- بعدم صلاحيته لتنظيم حياة الناس -بالرغم من طول الكوارث وعرضها التي تعتصر هذه الحضارة- كان حريا بالمسلم أن يتسلح ثقافيا؛ بالمعني القولي والتطبيق العملي لقوله تعالى: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} !!
وهذا المقال مشاركة في بيان كمال وحُسن حُكمين مهمين في باب التعاملات؛ مع مقارنة ما يقابل هذين الحكمين من أحكام وضعية بئيسة:
أولا:
نبذ العنصرية البغيضة !!
من أغرب ما حصل في تاريخ الحضارة المادية المعاصرة؛ أن دستور الولايات المتحدة الأمريكية -الذي كان الرئيس الأمريكي (Thomas Jefferson) توماس جيفرسون من أبرز كُتّابِه- قد ضم فقرة تنص على أن: “جميع الناس خُلِقوا متساوين، وأن خالقهم منحهم حقوقًا معينة غير قابلة للتصرف؛ ومن بينها الحياة والحرية والسعي وراء السعادة”، من أغرب ما حصل أنه تم إقرار ذلك الدستور؛ في وقت كان فيه توماس جيفرسون يملك (٦٠٠) من العبيد. [من كتاب: الأُسر المستعبدة للرئيس توماس جيفرسون][The Enslaved Household of President Thomas Jefferson]؛ وكأن هؤلاء العبيد ليسوا من البشر -مستحقي الحرية- التي نص عليها دستورهم ؟!!
أقر مؤسسها أمريكا ذلك الدستور في عام ١٧٧٦ من الميلاد .. لكن استعباد السود ظل مستمرا أكثر من قرن .. وبالرغم من إعلان الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن عام ١٨٦٣ من الميلاد تحرير العبيد؛ فقد استمرت معاناة السود -خاصة في الولايات الجنوبية- من التعامل الدوني والتفرقة العنصرية .. من ذلك ما وقع لبطل الملاكمة العالمي السابق محمد علي كلاي رحمه الله تعالى: حيث لم تشفع له ميداليته الذهبية في الملاكمة -التي رفع بها اسم دولته أمريكا في الأولمبياد- لم تشفع له في دخول مطعم -عام ١٩٦٠ من الميلاد- مكتوب على بابه: “يُمنع دخول الكلاب والسود” فغضب ورمى الميدالية في النهر !!
وتستمر معاناة الملونين في أمريكا حتى في أيامنا هذه .. بعد تكرار حوادث قتل الشرطة للسود .. وهذا شعار يرفعه الملونون هناك: (حياة السود مهمة) (Black Lives Matter) !!
ما سبق كان حديثا عن تناقضاتهم بين القول والفعل في تطبيق الدستور .. لكن أخطر ما تضمنته فقرة الحرية في الدستور الأمريكي -التي نقلتها بالنص آنفا؛ والتي هي في الحقيقة السبب الأكبر وراء انهيارهم المحتوم؛ سواء علموا ذلك أم جهلوه- هي أنها منحت الأفراد الحرية المطلقة؛ يفعلون في أنفسهم كل ما يريدون؛ حتى آلت بهم هذه الحرية إلى ما يراه العالم اليوم من انحلال؛ وعلاقات محرمة؛ وشذوذ؛ وغير ذلك من الموبقات .. وكل هذه الرذائل تمارس باسم الحرية الشخصية التي كفلها لهم الدستور !!
أمّا الإسلام: فقد نزل الوحي ببلاغ قرآني كريم -قبل ألف وأربعمائة عام- يضع التصور الصحيح عن بني آدم -عليه السلام-، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣]، ووضع لهم سبحانه معيار التفاضل بينهم -تقوى الله؛ التي تزيد بزيادة تمسكهم بمنهج الله تعالى- حتى لا ينفلتوا في حرية لا قيود لها !!
وكان التطبيق العملي لهذا البلاغ القرآني العظيم؛ هي تلك الأخوة الإيمانية الصادقة بين الصحابة رضوان الله عليهم -وفيهم أبو بكر الصديق العربي القرشي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي- قال صلى الله عليه وسلم: (لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ: إلَّا بالتَّقوَى) [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700)] !!
ثانيا: سن التكليف:
حددت الحضارة المادية سن الثامنة عشرة ليكون سن التكليف لديهم .. وليس اعتراضي على تحديد سن الثامنة عشرة ليكون سن التكليف؛ فقد يكون هو السن الأنسب لاستصدار -بطاقة الهوية؛ أو رخصة القيادة؛ أو ما شابه ذلك ممّا يحتاجه الناس للاندماج مع الحياة الوظيفية والمعيشية في المجتمع- إنما الغريب والمستنكر أن يكون هذا السن -الثامنة عشرة- ميقاتا لبدء ارتكاب الموبقات؛ من العلاقات المحرمة؛ وشرب الخمور؛ ودخول الكازينوهات للعب الميسر والقمار .. إذ يُمنع من هو دون الثامنة عشرة من ممارسة كل هذه الرذائل .. وكأن سن الثامنة عشرة ميقات لبدء إفساد رحلة حياة أتباع الحضارة المادية؛ لو كانوا يفقهون !!
بينما نجد أن الإسلام قد كلف المسلم عند البلوغ -ذكرا كان أو أنثى- بالتكاليف الشرعية؛ من إحلال الطيبات؛ وتحريم الخبائث؛ ليكون سن بلوغ المسلم ميقاتا للاستسلام لمنهج رب العالمين؛ ولينسجم -باقي عمره- مع مخلوقات الله تعالى في هذا الكون الفسيح؛ المستسلمة جميعها لله رب العالمين !!
وبعد .. فها نحن قد لمسنا الحكمة البالغة في حُكمين فقط؛ فكيف بأحكام الشريعة كلها .. فالحمد لله العليم الحكيم ؟!!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!