الحلقة الحادية عشرة من سلسلة: “سماحة الإسلام؛ دين الحنيفية” !!
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: ١٤]، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) [السلسلة الصحيحة (٢٩٢٤)] !!
قال أهل التفسير في معنى الآية التي هي موضع التأمل: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}؛ “وما تفرَّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا شيعًا وأحزابًا إلا مِن بعد ما جاءهم العلم وقامت الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد” !!
إنها سماحة الإسلام العظيمة في بيان كل ما يؤثر سلبا في حياة البشر؛ ويفرقهم؛ ويدعوهم إلى التباغض والتدابر؛ بل ويدعوهم إلى الافتراق وتأجيج الحروب .. وعلى رأس هذه الآثام والذنوب: البغي بين الناس؛ كنتيجة حتمية للإعراض عن الحق الذي أنزله الله تعالى؛ واتباع الهوى؛ خاصة عند نشوب الخلاف !!
والحكم بالحق؛ والانقياد إليه هو منهج الأنبياء عليهم السلام؛ وعلى رأسهم سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥] !!
والمتأمل في عالمنا المعاصر -خاصة ما تنقله وسائل الإعلام- يسمع ويرى ضروبا من التحليلات عن أسباب نشوب الخلافات بين الأفراد والمجتمعات .. تحليلات لا تهتدي بنور الوحي المطهر؛ ولا تزيد الخلاف إلا اشتعالا؛ والفرقة إلا اتساعا !!
هذا وإن من سماحة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن ضرب للبشرية المثل الأعلى في الانقياد إلى الحق؛ وإطفاء نزوة البغي وشؤمه على الأفراد والمجتمعات .. وفيما يلي أمثلة من سيرته العطرة -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب:
المثال الأول:
حين عزم صلى الله عليه وسلم على أداء العمرة -للمرة الأولى بعد هجرته إلى المدينة-؛ منعته قريش .. فأبرم معهم معاهدة -صلح الحديبية- التي كان من شروطها: “وقف الحرب بين الطرفين لمدة عشر سنوات .. أداء العمرة العام القابل .. إرجاع أي مسلم قرشي يهاجر إلى المدينة -بعد صلح الحديبية- وتسليمه لقريش” .. ثم بعد الاتفاق على شروط المعاهدة؛ وقبل أن يعود رسول قريش للصلح -سهيل بن عمرو- إلى مكة؛ وإذ بابنه المسلم -أبي جندل- يصل إلى مكان إبرام الصلح؛ هاربا من تعذيب أبيه له في مكة .. فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم -إنفاذا للمعاهدة- إلا أن رده وسلمه لأبيه ليعيده إلى مكة؛ مع علمه صلى الله عليه وسلم بما ينتظر هذا الصحابي من ظلم وتعذيب هناك، [سيرة ابن هشام (٢/ ٣١٧)] .. ولكن ليس هناك من الخلق من هو أوفى بالعهود والمواثيق منه صلى الله عليه وسلم، وهو أسعد الناس بالحق أينما كان !!
ولقد كان صلح الحديبية؛ ووفاء النبي صلى الله عليه وسلم بشروط المعاهدة -مع ما فيها من شروط جائرة على المسلمين- عِزا لهم ونصرا، حتى أن الله تعالى سماه فتحا؛ ونزلت فيه سورة الفتح، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: ١]، قال أهل التفسير: “إنا فتحنا لك -أيها الرسول- فتحًا مبينًا، يظهر الله فيه دينك، وينصرك على عدوك، وهو هدنة “الحديبية” التي أمن الناس بسببها بعضهم بعضًا، فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله، وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته، فدخل الناس تلك المدة في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا، أي ظاهرًا جليًّا” !!
ثم بغت بعد ذلك قريش؛ ونقضت العهد؛ فكان ذلك إرهاصا لفتح مكة .. ودارت الدائرة على الباغين !!
المثال الثاني:
سمع الصحابي الجليل زيد بن أرقم -رضي الله عنه- مقولة السوء في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ التي أطلقها رأس النفاق عبدالله بن سلول: “والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل” .. وحينما وصل خبر المقولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طلب حضور ابن سلول .. فلما حضر سأله صلى الله عليه وسلم عمّا نُسِب إليه من قول؛ فحلف أنه ما قال .. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو القائل: (اليمينُ على المدَّعَى عليه) [متفق عليه] -مع علمه بكيد ابن سلول للإسلام والمسلمين- ولم يقبل كلام زيد؛ إذ لم يكن لديه أدلة ولا شهود !!
لقد عامل صلى الله عليه وسلم كبير المنافقين بالحق الذي جاء به منهج الإسلام؛ حيث المتهم بريء حتى تثبت إدانته !!
ثم نزل الوحي المطهر بصدق ما نقله الصحابي زيد بن أرقم -رضي الله عنه- عن ابن سلول، قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: ٨] !!
المثال الثالث:
حتى ما كان يلمس -صلى الله عليه وسلم- من أنه مقدمات للبغي؛ كان يرفضه وينهى عنه .. في الحديث: كسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ وقال المُهاجريُّ: يا لَلْمُهاجِرينَ قال: فسمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك فقال: (ما بالُ دَعْوى الجاهليَّةِ) ؟ فقالوا: يا رسولَ اللهِ رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ كسَع رجُلًا مِن الأنصارِ فقال: (دَعُوها فإنَّها مُنتنةٌ) [متفق عليه] !!
أطفأ صلى الله عليه وسلم بوادر تلك الفتنة؛ ببيان الحق؛ ورد المختلفين من الصحابة -رضوان الله عليهم- إليه !!
ألا ما أعظمك من دين؛ غطت سماحته كل أمر !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!