الحلقة العاشرة من سلسلة: “الدوافع الربانية في المنافسة على حفظ كلام خالق البرية”، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: ٨٧] !!
قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: ٣١] !!
ممّا يُعدُّ عقيدة راسخة لدى المسلمين: أنه لن تحصل لهم رؤية الله تعالى في الآخرة؛ ولن يشرب أحد شربة من حوضه صلى الله عليه وسلم؛ ولن يستمتع أحد بمُتع الجنة التي وعد الله تعالى بها المتقين؛ إلا بعد الفوز بالجنة والنجاة من النار !! فصار لذلك بديهيا أن يكون سؤال الله تعالى الجنة؛ والعمل الذي يقرب إليها؛ والاستعاذة به من النار؛ ومن كل عمل يقرب إليها؛ هو أعظم ما يشتغل عليه المؤمنون في هذه الحياة الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ وأعوذُ بكَ منَ النَّارِ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ) [صححه الألباني في صحيح الجامع (٤٠٤٧)] !!
ومع أن الله تعالى وضع للناس بيته العتيق في أم القرى -يستقبله المسلمون في صلواتهم؛ وغيرها مما شرع لهم استقبال القبلة له- وجعل أعظم ما في هذا البيت حجرا من الجنة؛ لتبقى ذكرى الجنة حية في نفوس المسلمين؛ كلما ذكروا أنه من الجنة .. إلا أن الأمر الأعظم في التذكير بسؤال الله تعالى الجنة؛ والاستعاذة به من النار؛ هو كتاب الله تعالى؛ الذي لا يفتأ يرغِّب في الجنة؛ ويخوِّف من النار !!
وعليه فإن من الدوافع العظيمة لحفظ كتاب الله تعالى: هي الرغبة القوية لدى المؤمن في أن يكون في صدره كلام ربه تعالى عن الجنة والنار -يتلذذ بذكرى الجنة؛ ويتعوذ بالله من النار؛ كلما تلاه- ليزداد بذلك تقربه إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة !!
وسأقف -بتوفيق الله تعالى- في هذا المقال مع موضوع الجنة: وقفتين:
الوقفة الأولى:
إن العظمة التي أحاط الله تعالى بها الجنة؛ والعرض القرآني الشيق بما أعده فيها للمتقين من نعيم؛ ممّا تستوعبه عقولهم؛ وغير ذلك ممّا لا تستوعبه عقولهم -ممّا لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر- لا يمكن لعقل سليم -يُذكّر به- إلا ويكاد قلبه يطير لهفة ورغبة إلى ذلك النعيم .. لكن قلة استحضار آيات القرآن الكريم -التي تتحدث عن الجنة؛ وهي كثيرة- قد أضعف لدى البعض من المسلمين هذه اللهفة والرغبة .. والحل الأمثل لذلك الضعف هو الإقبال على حفظ كتاب الله تعالى وتدبره -كله أو بعضه- وسيرى المؤمن بعد ذلك الفرق الكبير في زيادة إقباله على سؤال الله تعالى الجنة؛ وزيادة تقربه بالأعمال التي تقرب إليها !!
وممّا يزيد نعيم الجنة عظمة أن الله تعالى خلقها بيده .. ثبت في الأثر الصحيح موقوفا: (خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان) [صحح إسناده الألباني في مختصر العلو (١٠٥)] !!
الوقفة الثانية:
جمع الله تعالى في الآية -التي هي موضع التأمل- بين تحقيق مشتهيات المؤمن في الجنة وبين تحقيق مطالبه فيها، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} !!
ففي باب المشتهيات -من مطعم؛ ومشرب؛ ومنكح؛ وغيره- يحقق الله تعالى للمؤمن في الجنة ما يشتهيه .. بل حتى لو رغب في الولد؛ فإن الله تعالى يحققها له بطريقة إعجازية، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي)[صححه الألباني في صحيح الجامع (٦٦٤٩)] !!
وفي باب المطلوبات -الخارجة عن دائرة الطعام والشراب وغيره- فإن الله تعالى يحقق له كل مطلوباته في الجنة .. وما على المؤمن سوى أن يحلق بخياله ليطلب ما يريد !!
من هذه المطلوبات التي قد يسألها بعض أهل الجنة: المعرفة التاريخية .. إذ نعلم جميعا ما للعلم والمعرفة بتاريخ الأمم؛ من لذة يعرفها الناس في هذه الدنيا .. فكيف عساها ستكون لذة المعرفة التاريخية في الجنة؛ التي ينبؤنا بها العليم بتاريخ الأمم كلها .. قال موسى عليه السلام -فيما حكاه القرآن عنه- عن علم الله تعالى بالقرون الأولى: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه: ٥٢] ؟!!
وعليه فقد يرغب المؤمن -وهو في الدنيا- أن يتعرف في الجنة على جميع أنبياء الله تعالى ورسله -عليهم السلام-؛ وسيّرهم؛ وما وقع لهم مع أقوامهم .. إذ نحن لا نعرف منهم سوى خمس وعشرين؛ وهم قطعا أكثر من ذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: ٧٨] !!
وليس غريبا أن يشتهي المؤمن أو يطلب أشياء تحصل له في الجنة -وهو بعد في هذه الدنيا- فقد سأل الصحابي ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ” [رواه مسلم (٤٨٩)]!!
أخيرا: إن الدرس العظيم المستفاد ممّا سبق بيانه: هو أن دافع حفظ كتاب الله تعالى -لترسيخ المعاني العظيمة عن الجنة والنار- لهو من أقوى الدوافع الربانية لحفظ القرآن الكريم !!
أخي المسلم .. أختي المسلمة: لنكن حريصين على إعطاء كتاب الله تعالى الأولوية من أوقاتنا في هذا الشهر الفضيل -تدبرا وحفظا وعلما- حتى تزداد معرفتنا بما قاله ربنا تعالى عن الجنة والنار .. وفي هذا المقال تأملنا في آية واحدة فقط -{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}- فأعطتنا كل تلك المعاني، فكيف بباقي آي الكتاب الكريم؛ التي تحدثت عن الجنة ؟
اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّا !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!