الحلقة الرابعة والعشرون من سلسلة “واقع الأسرة بين حضارة الإسلام الربانية العظيمة وحضارة الغرب المادية .. مقارنة من الواقع” !!
قال الله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} [آل عمران: ١٩٦]، قال أهل التفسير: “لا تغتر -أيها الرسول- بما عليه أهل الكفر بالله من بسطة في العيش، وسَعَة في الرزق، وانتقالهم من مكان إلى مكان للتجارات وطلب الأرباح والأموال، فعمَّا قليل يزول هذا كلُّه عنهم، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة” !!
بعد أن وفق الله تعالى -في الحلقات الماضية من هذه السلسلة- لبيان الانحدار الأخلاقي المخيف لمجتمعات الحضارة المادية المعاصرة؛ تأتي الآية الكريمة -التي هي موضع التأمل في هذا المقال-: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}؛ لتكون أصلا في النهي عن الانبهار والاغترار بدنيا من تمردوا على خالقهم العظيم؛ ونبذوا منهجه القويم !!
ولأن عِمارة الأرض من قِبل الحضارات المادية تُعد من أكثر ما يبهر الناس في كل زمان؛ فقد عالج القرآن الكريم هذا الموصوع ببيان غاية في التأثير، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ • وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ • وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٣٣-٣٥]، فقد بينت الآية الكريمة أنه لولا كراهة أن يُفتن المؤمنون؛ بما يعطي الله تعالى الكافرين من متاع الدنيا -فيكفروا مثلهم- لزاد الله تعالى الكافرين في تقدمهم المادي؛ حتى تصير مادة بناء بيوتهم ذهبا وفضة .. ولا شك أن الآيات الكريمات تدل على خطر الانبهار والاغترار بالحضارة المادية !!
أخيرا: المقارنة بين الأُسرتين -المسلمة وغير المسلمة- في موضوع: النهي عن الانبهار بدنيا الكافرين؛ الذي هو موضوع التأمل في هذا المقال:
الأُسرة المسلمة: أدركت من قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩]؛ أنها هي الأعلى بإيمانها بالله تعالى؛ حتى حين يزيد عليهم أهل الحضارة المادية في عِمارة الأرض؛ بل حتى في حال انهزامهم في ساحات القتال أمام المشركين -كما وقع للمؤمنين في غزوة أحد- ذلك أنهم يستندون إلى ركن شديد؛ الله العلي الكبير، ولا ينبغي لهم أن ينبهروا بالحضارة المادية؛ ما داموا معتزين بإيمانهم !!
أمّا الأُسر غير المسلمة -من أتباع الملل والنحل المنحرفة- فقد استبدلوا العبودية لله تعالى بعِمارة الأرض، وذلك حينما يسارعون بالإشارة إلى كثرة أموالهم وأولادهم -والأموال والأولاد من أعظم ما تعمُر به الأرض-؛ كلما دُعُوا إلى عبادة الله تعالى؛ وأنه لا أحد يقدر على محاسبتهم وعقابهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ • وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبإ: ٣٤-٣٦] !!
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: ما الذي جعل عِمارة الأرض محمودة -في كتاب الله تعالى- إذا قام بها المسلمون؛ ومذمومة إذا قام بها أرباب الحضارة المادية ؟
والجواب: إنه فارق الإيمان بالله تعالى؛ والاستسلام لمنهجه القويم، فترى عباد الله المؤمنين الذين يعمّرون هذه الأرض؛ مستغفرين تائبين، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: ٦١]، فتكون عمارتهم للأرض منضبطة بمنهج الله تعالى، فيسعدوا، وتسعد معهم البشرية !!
أمّا عِمارة أرباب الحضارة المادية للأرض؛ فإنها تكون بمنأى عن منهج الله تعالى، قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ • وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ • وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: ١٢٨-١٣٠]، قال أهل التفسير؛ “أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عاليًا تشرفون منه فتسخرون مِنَ المارة؟ وذلك عبث وإسراف لا يعود عليكم بفائدة في الدين أو الدنيا، وتتخذون قصورًا منيعة وحصونًا مشيَّدة، كأنكم تخلدون في الدنيا ولا تموتون، وإذا بطشتم بأحد من الخلق قتلا أو ضربًا، فعلتم ذلك قاهرين ظالمين”، فسبحان منزل هذه الآيات؛ وكأنها تتكلم عمّا يقع من أحداث في هذا الزمان؛ إذ لم يرَ العالم ظلما وقهرا أشد من الحروب التي خاضتها الحضارة المادية المعاصرة !!
وإذا حاك في نفس المسلم سؤال: كيف لا ننبهر بالحضارة المادية المعاصرة؛ وقد أهدت إلينا السيارة والساعة؛ وكثيرا من الصناعات، ثم ماذا قدمنا نحن لهم ؟!
فليعلم أن أعظم هدية نردها إليهم مقابل تلك الصناعات؛ هي دعوتهم إلى دين الحق؛ ليخرجوا به من الظلمات إلى النور؛ ومن عذاب الجحيم إلى جنات النعيم، وهذا ما فعلته القرون المفضلة تجاه امبراطوريتي فارس والروم؛ ومن ثم قادت الأمم؛ ليس في كونها أصبحت أغنى وأقوى الأمم فقط؛ بل كانت أسعد الأمم بهدي الله تعالى؛ وأخرجت الكثير من الشعوب من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة !!
كما على المسلم أن يدرك -حتى لا يتكاسل عن العمل والأخذ بالأسباب- أن لله تعالى منهجا متفردا -شرعه لأهل الإسلام في النظر لهذه الدنيا؛ وإصلاحها؛ وعمارتها؛ وبيان الخلل الذي يسبب التخلف المادي فيها- يختلف جذريا عن منهج غير المسلمين في النظر للدنيا وعمارتها !!
فالحمدلله أن جعلنا من أُسر مسلمة !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!