الحلقة الحادية والتسعون من سلسلة “معا؛ لنرتقي في تقديرنا لله تعالى حق قدره في هذه الحياة الدنيا؛ بالتأمل في بعض الآيات القرآنية الكريمة !!
قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية : ١٣]، قال أهل التفسير: “وسخَّر لكم كل ما في السموات من شمس وقمر ونجوم، وكل ما في الأرض من دابة وشجر وسفن وغير ذلك لمنافعكم، جميع هذه النعم منة من الله وحده أنعم بها عليكم، وفضل منه تَفضَّل به، فإياه فاعبدوا، ولا تجعلوا له شريكًا. إنَّ فيما سخره الله لكم لعلامات ودلالات على وحدانية الله لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته، فيعتبرون بها”.
أبدع كثير من علماء الأحياء -خاصة من غير المسلمين- في إجراء دراسات وأبحاث تمتد بعضها إلى عشرات السنين؛ حول سلوكيات كثير من الدواب والطير وغيرها من المخلوقات، وكأنهم بهذه الدراسة يخلصون إلى ما سبق إليه القرآن الكريم من كون هذه المخلوقات من الدواب والطير؛ إنما هي أمم، قال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}، قال الشيخ السعدي: “كلها أمم أمثالكم خلقناها كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا، كما كانت نافذة فيكم” [تفسير السعدي (٢٥٥)] !!
لكن ممّا تميز به أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ أن الله تعالى الخالق العظيم أمدهم بالمعرفة الصحيحة التي يحتاجونها لتنظيم العلاقة بين الإنسان وبين مخلوقات الله الأخرى؛ من دواب وطير وغيرها !!
وقد اخترت أن أقف وقفة مهمة مع هذا الموضوع:
جعل الله تعالى العلاقة بيننا وبين أمة الدواب والطير؛ وكل ما في السماوات والأرض؛ علاقة التسخير -مسخرة لنا- قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية : ١٣] !!
وقد أدى غياب معرفة علاقة التسخير -التي بينها الله تعالى في كتابه- عند البعض من غير المسلمين إلى التطرف بعلاقة خاطئة مع الدواب، من ذلك:
عبدها بعضهم من دون الله تعالى؛ كعُبّاد البقر، مع أن الله تعالى سخرها لهم، قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل : ٥] !!
وبعضهم اقتنى الكلاب لتخالطه داخل بيته؛ بسبب الوحدة التي أفرزتها قيم مجتمعاتهم .. ونظموا لها مسابقات للجمال .. وورّث أحدهم كلبه .. وغير ذلك من السلوكيات الخاطئة، حتى ليظن الإنسان أنهم عكسوا الأمر، فبدلا من كونها مسخرة لهم؛ صاروا هم مسخرين لها !!
أمّا في الإسلام فقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتناء الكلب لثلاثة أمور، قال صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان) [رواه البخاري (٥٤٨١) ومسلم (١٥٧٤)]، ومن هذا الحديث الشريف يتبين سبق الإسلام إلى تدريب الكلاب البوليسية، ذلك أن كلاب حراسة الماشية وحماية الزرع تحتاج إلى تدريب لرد المعتدين من الذئاب ومن السُّراق من البشر !!
هذا وإن من أحط وأغرب ما حصل في هذا العصر عند نحو عشرة آلاف من غير المسلمين هو محاكاتهم الكلاب في مشيها ونباحها؛ مرتدين أقنعة وجوه الكلاب؛ وملابس تشبه جلود الكلاب، في ظاهرة أسموها بالكلاب البشرية !!
وبعضهم جعلوا العلاقة مع بعض الدواب علاقة وحشية؛ كمصارعة الثيران !!
إن من أعظم ما فات غير المسلمين من معرفة ربانية عن أمم الدواب والطير وغيرها من المخلوقات؛ هو حشر الله تعالى لهذه الأمم يوم القيامة ليقضي بينهم، فيتعظ البشر بذلك أيما عظة، قال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير : ٥]، وقال صلى الله عليه وسلم: (يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم ، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر : {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}[صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (١٩٦٦)]، وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: (يا أبا ذر، هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما)[مسند أحمد (٢١٤٣٨)]!!
قال الإمام الطبري -في تفسيره- لبيان عِظم العظة للمكذبين التي جاءت في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}: قال أبو جعفر: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء”[تفسير الطبري (٣٤٤/١١)] !!
وكذلك تسخير الجمادات والنباتات وموجات الأثير -الموجات الكهرومغناطيسية- من الله تعالى للناس؛ وكيف تعامل الناس معها !!
الحديد معدن من مجموعة من المعادن؛ سخرها الله تعالى للناس، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[الحديد : ٢٥]؛ استخدمه الناس -مسلمون وغيرهم- فيما ينفعهم كصناعة المحركات، وأعمال البناء، وغير ذلك من الاستخدامات الكثيرة النافعة !! غير أن البعض من غير المسلمين خرج عن دائرة الاستخدامات النافعه للحديد؛ إلى استخدامات شركية؛ فصنعوا منه الأصنام؛ يعبدونها من دون الله تعالى، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان : ٣] !!
والأشجار التي سخرها الله تعالى للناس، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [يس : ٨٠]، وقال تعالى: {يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : ١١]؛ استخدمها الناس -المسلمون وغيرهم- فيما ينفعهم كإنتاج الطاقة وصناعة الورق والأثاث وغير ذلك من الاستخدامات الكثيرة النافعة، غير أن البعض من غير المسلمين خرج عن دائرة الاستخدامات النافعه للأشجار؛ إلى استخدامات خاطئة؛ فصنعوا من أقمشة النباتات -كالقطن والكتان- أنواعا من الألبسة الخادشة للحياء، وقد بين الله تعالى أن من أهداف الشيطان الكبيرة تعرية البشرية من اللباس الساتر، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف : ٢٧] !!
وصنعوا من بعض الفواكه الخمور، قال صلى الله عليه وسلم: (اجتنِبوا الخمرَ؛ فإنَّها مِفتاحُ كلِّ شرٍّ) [السلسلة الصحيحة (٢٧٩٨)] !!
أما موجات الأثير التي سخرها الله تعالى للناس -وهي غير منظورة للعين المجردة، وداخلة في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ • وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة : ٣٨-٣٩]، قال الشيخ السعدي في تفسيرها: “أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الأشياء وما لا يبصرونه”- موجات الأثير استخدمها المسلمون وغيرهم فيما ينفعهم من التواصل الإيجابي ونشر الخير عن طريق المذياع والتلفاز والشبكة العنكبوتية !! غير أن البعض من غير المسلمين خرج عن دائرة الاستخدامات النافعه لموجات الأثير؛ إلى استخدامات خاطئة؛ كنشر المعتقدات الباطلة والإلحاد والإباحية وترويج الفساد !!
وأخيرا: فإن الناس لو أرادوا الإفادة المُثلى مما سخره الله تعالى لهم؛ ممّا خلق في السماوات والأرض -{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}- وأن يتجنبوا عواقب الاستخدام الخاطئ لها؛ فلا يكون ذلك إلا بالاستسلام لله تعالى والانقياد لشرعه؛ الذي أبان فيه الخبيث من الطيب، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف : ١٥٧] !!
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك ..
نواصل الحديث -بعون الله تعالى وتوفيقه- في الحلقة القادمة ..
كتبه/ محب الخير لنفسه وللمسلمين والمسلمات .. فؤاد بن علي قاضي .. غفر الله تعالى له ولوالديه وللمسلمين ..
انشر .. لعلنا ننتفع جميعا ونؤجر .. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدالَ على الخيرِ كفاعله) !!